استمرأ الكيان المحتل خلال حروبه، وعلى قطاع غزة تحديداً، أن يتنصل من التبعات، إن القانونية لجرائم قتل المدنيين والاعتقال من دون تُهم ومحاكمات، عبر مظلة ادعاء المظلومية المضللة والفيتو الأميركي، أو الهروب من الأعباء المالية الناتجة عن تدميره المباني والمرافق والأراضي الزراعية، من خلال دفع غيره أثمان عدوانه.
بل اعتادت إسرائيل ضمان ترميم جرائمها، حتى قبل توقف العدوان من خلال ما يطرح تحت شعار "إعادة الإعمار" والذي يا للأسف، لا يطاول كل ما تدمره آلة الحرب، إثر التجاهل أو غض الطرف بعد التسويات، على ما يتم اقتطاعه من أراض بعد كل جريمة عدوان.
وربما بما يسمى "غلاف غزة" المقتطع من القطاع بعد دخول "السلطة الفلسطينية" المنطقة المحتلة بعد اتفاق "أوسلو" عام 1994 وانتهاء احتلال القطاع في سبتمبر/أيلول 2005 وإنشاء ما يسمى "المنطقة العازلة" على مساحة 40 كيلومتراً مربعاً وبناء 50 مستوطنة ضمن ثلاثة مجالس إقليمية، مثال على توسع الاحتلال وسرقته الأراضي وتغييب تلك المناطق.
قصارى القول: بمساع ونوايا حسنة على الأرجح، انطلق في مدينة إسطنبول التركية أمس اجتماعات الدورة الـ12 لمجلس أمناء الهيئة الدولية العربية للإعمار في فلسطين، لبحث إعادة إعمار غزة ومشروع للإيواء العاجل للفلسطينيين في القطاع.
وتحاول الدول العشرون، ضمن شعار "معاً نعيدها أجمل" من خلال الاكتتاب على التبرعات وتوفير المأوى والغذاء، قبل حصر حجم الأضرار والشروع في الترميم وإعادة الإعمار، لمساعدة المنكوبين في القطاع و"تجديد ميثاق العزم على البناء والإعمار ليشرق مستقبل أطفال فلسطين كبقية أطفال العالم" كما قال رئيس الهيئة، الطاهر المصري خلال افتتاح أعمال المجلس.
بالتأكيد، من دون التطرق إلى المسؤولية المالية على الاحتلال وتحميله واجبات دفع ما لايقل عن 15 مليار دولار، تكاليف أولية بحسب تقديرات رئيس صندوق الاستثمار الفلسطيني محمد مصطفى. بعد كارثة إنسانية ودمار هائل في البنية التحتية، أوصلت، رغم التبني والدعم، دول الاحتلال محكمة العدل الدولية بتهمة "الإبادة الجماعية.
أو الوقوف على ما هو أهم، إن على صعيد قتل البشر، بعد أن تعدى عدد الشهداء 31 ألفاً وناف الجرحى عن 71 ألفاً ونزح حوالي 1.7 مليون شخص - أكثر من 80% من سكان غزة - وتجمع جلّهم أقصى جنوب القطاع.
أو الإشارة إلى ما يصعب تعويضه خلال إعادة الإعمار، إن على صعيد الإنسان الفلسطيني، والأطفال في المقدمة بعد تحطيم النفسية والأمل وفقدان الثقة بكل ما هو خارج القطاع، أو المباني الأثرية والمعالم الدينية التي كان لتدميرها أهداف خبيثة تتعلق بطمس أدلة ونكران تاريخ أهل الأرض الأصليين.
وعلى الأرجح، ستكون اجتماعات مجلس أمناء الهيئة الدولية العربية للإعمار في فلسطين، بداية لما بعدها من اجتماعات ومؤتمرات وقمم، يتاجر خلالها بالقضية وإعادة الإعمار، حتى من ساهم في التدمير ودعم الاحتلال بالغذاء والسلاح ولم تتوقف قوافل تجارته عن تل أبيب، طيلة فترة العدوان.
نهاية القول: إن قفزنا، رغم الوجع، على ما يمكن تصنيفه أس القضية وأساسها، وهو الاحتلال وما تمخّض عنه من نظرة استعلائية لا ترى الفلسطينيين وربما كل العرب، بشراً يستحقون الحياة، مستدلين بأحدث التصريحات، سواء ما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت عن الفلسطينيين بعد السابع من أكتوبر الماضي "حيوانات بشرية" أو ما دعا إليه وزير التراث، عميحاي إلياهو "إن إلقاء قنبلة نووية على غزة هو حل ممكن، كي لا يبقى على وجه الأرض، وعلى إسرائيل إعادة إقامة المستوطنات فيه".
لنقف على ما انطلقنا منه، وهو تحميل الكيان التكاليف المالية الناتجة عن عدوانه، إذ بذلك، ردع إضافي سيزيد من خسائره وترنح اقتصاده الذي تعرّى بعد "طوفان الأقصى".
وربما الفترة سانحة اليوم، بعد الدعوى التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي، بحيث لا يقتصر الاستماع والبحث، قبل إطلاق الحكم، على نزع الملكية الممنهج والتشريد والتفكيك الديمغرافي والإبادة الجماعية، بل يطالب القضاة، بعد دعاوى من أصحاب الضمائر كما جنوب أفريقيا، بتحميل الكيان الإسرائيلي تكاليف حربه وما دمره العدوان.
وهذا لا يعني البتة، وقف مساعي الدول وتبرعاتها لسرعة إعمار ما يمكن وإبعاد أهل غزة عن التشرد والجوع والموت، بل استخدام ورقة تحميل التكاليف للعدو الذي يلف اقتصاده اليوم، الركود والخسائر، بعد هروب العمالة وإغلاق الشركات، لأن إسرائيل التي تناور بعدم وجود "عنصر النية" للإبادة، لا يمكنها التنصل من نيّات التدمير المستمر والتحضير والتخطيط المسبقين لقضم الأراضي وسرقة المياه والغاز والتضييق على القطاع بعد تمزيقه.
والأرجح أن فشل الاحتلال في تهجير أهل القطاع، كان دافع الحقد الأكبر وراء التدمير والإبادة التي استمرأت التنصل من مسؤولياته والتهرب من دفع تكاليف إعادة الإعمار.