يبدو أن بوادر انتعاش جديدة بدأت تلوح في سماء الاقتصاد التركي بعد القرار الذي اتخذه البنك المركزي بقيادة محافظته الجديدة حفيظة غاية أركان، أمس الخميس، برفع الفائدة 650 نقطة أساس (6.5%) إلى 15%، للمرة الأولى منذ عام 2021، بعد أن اعتمدت تركيا سياسة مالية تعتمد على خفض الفائدة. فكيف ذلك؟
تعتبر خطوة المركزي التركي مؤشراً قوياً على تغير نهج السياسة التقليدية للرئيس رجب طيب أردوغان، الذي ألمح إليها من قبل بعد إعادة انتخابه في 28 مايو/أيار الماضي، حيث أعطى إشارات تفيد بالتحوّل في السياسة النقدية والابتعاد عن سياسة الفائدة المنخفضة غير التقليدية التي كان يتبعها سابقا، والتخلي عن سياسات اقتصادية خارجة عن النهج التقليدي تطبقها تركيا منذ سنتين بدفع من أردوغان، مع رفع معدلات الفائدة بنسبة كبيرة سعيا لاحتواء التضخم وتثبيت سعر الليرة التركية.
وأعلن أردوغان، الأربعاء، أن قناعته بشأن ضرورة خفض معدلات الفائدة "لا تزال على حالها"، لكنه ألمح إلى أنه أعطى موافقته على زيادة نسب الفائدة.
ويرى المحلل التركي يوسف كاتب أوغلو، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن أردوغان أعطى بعد انتخابه إشارات تفيد بالتحول في السياسة النقدية، مستدلاً باحتمال العودة إلى سياسات أقرب إلى النهج التقليدي، لا سيما من خلال تعيينه الخبير الاقتصادي السابق في "ميريل لينش" محمد شيمشك وزيراً للاقتصاد، والمسؤولة السابقة في "وول ستريت" حاكمة للبنك المركزي.
توقعات الاقتصاد التركي في المرحلة المقبلة
وحول الوضع الاقتصادي خلال الفترة المقبلة، قال كاتب أوغلو إن "هناك تبعات اقتصادية مؤلمة بعد الزلزالين، ولدينا تحديات كبيرة، وعلى الحكومة الحالية العمل على إعادة الوضع الاقتصادي إلى ما كان عليه في بادئ الأمر خلال المرحلة الحالية، خاصة أن هناك وعوداً بإعادة بناء جميع المناطق المتضررة في 11 ولاية بتكلفة تصل إلى أكثر من 105 مليارات دولار".
وأضاف أن "تركيا لديها فرص قوية للتعافي من خلال الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خاصة في الاكتشافات النفطية والغاز، التي ستعمل بكل تأكيد على تخفيض العجز التجاري وإعادة التوازن إلى الميزان التجاري، بل ربما نسمع عن الاكتفاء الذاتي في الطاقة نهاية العام الجاري، حيث تركيا تركز على اكتشاف المزيد من الغاز الطبيعي وعلى أن تصبح مصدرة للطاقة بالتعاون مع روسيا وتصدير الغاز الروسي إلى كل دول أوروبا والعالم".
تأثير الزلزال على الاقتصاد التركي
وأكد كاتب أوغلو أن الزلازل لن تؤثر في السياحة التي حققت 45 مليار دولار العام الماضي، وتوقع أن يرتفع الرقم هذا العام إلى أكثر من 50 ملياراً، ولهذا لم يُغيّر وزيرا السياحة والصحة.
كما توقع أن تستمر تركيا في العمل بكل السبل لمواجهة تداعيات الحرب الأوكرانية، والتي تديرها بذكاء، ولن ترضخ للضغوط الغربية، بل على العكس، ستستمر جهود تركيا لنزع فتيل هذه الأزمة والقيام بدور إيجابي لتسوية أية مشكلات تتعلق بهذه الحرب، مثل اتفاق تصدير الحبوب الذي أنقذ العديد من دول العالم من الفقر ومن أزمة عالمية معقدة.
ورجح أن تعمل الحكومة على التوافق في التعامل مع الأسواق العالمية، خصوصاً مع وجود وزير المالية محمد شيمشك، الذي يعد من الأسماء الاقتصادية المعروفة والمرضي عنها في الأسواق العالمية والأوروبية، وسيجرى هذا التوافق عبر تأسيس فريق اقتصادي قوي بداية من البنك المركزي، حيث غُيّر مجلس إدارته وعُيّنت رئيسة جديدة بشكل قد يطمئن الأسواق العالمية ويشجع رؤوس الأموال على العودة والاستثمار في الأسواق التركية.
وقال: "ربما يتزامن الأمر مع العودة لرفع تدريجي لأسعار الفائدة للحد من التضخم أو الضغوط على سعر صرف الليرة التركية، من دون إجراءات دراماتيكية أو تغيير منهجي قي السياسة الاقتصادية".
وأضاف أنه "سيجرى هذا التغيير المتدرج عبر النزول بمعدلات التضخم إلى خانة الآحاد، ودعم الاستثمارات الأجنبية المباشرة عبر سلسلة من الامتيازات والإعفاءات والتسهيلات لزيادة معدلات النمو والدفع بعجلة الصادرات، وإيجاد روافد للعملة الأجنبية من قطاع الطاقة عبر التوسع في مشروعات الطاقة البديلة مع استمرار الاكتشافات في قطاع الطاقة المحلية".
ماذا عن مسار تراجع الليرة التركية؟
واستغرب كاتب أغلو تراجع الليرة عقب الانتخابات الرئاسية، وقال: "في أعقاب إعلان نتائج الانتخابات، تعرضت قيمة الليرة لتراجع بأكثر من 7.5%، مسجلة هزة نقدية جديدة ضربت الأسواق بشدة، معمّقة القلق من مسار سعر صرف العملة أمام الدولار خلال الفترة المقبلة، وهو ما يؤكد أن تركيا تتعرض لهجوم شرس من مصارف الاستثمار العالمية من خلال مضاربات وسحب الدولار من السوق، فلا يوجد أي مبرر لهذا التهاوي الكبير في سعر الليرة، خاصةأن جميع البيانات والمؤشرات الاقتصادية مشجعة".
ويضيف أن سياسة الفائدة المنخفضة لم تناسب الدول الغربية، لذا فإن ما يجري من مضاربة واستهداف يهدف إلى إلزام الحكومة التركية الجديدة بالنظر في رفع سعر الفائدة، خاصة أن محمد شيمشك من أنصار هذا التوجه، لامتصاص فائض السيولة من السوق التركية.
وتوقع أن تبتعد تركيا عن الطرق السابقة في حماية الليرة وكبح المضاربة عليها، سواء تقييد أو ضخ عملات أجنبية، مرجحاً التعامل بآلية اقتصادية جديدة تقوم على رفع سعر الفائدة وسحب السيولة النقدية من الأسواق لمكافحة التضخم المرتفع، مرجحاً استقلال القرار النقدي في تركيا، بعد تعيين المحافظ الجديد وبدء وزير المال الجديد تطبيق سياساته، ما يعني، برأيه، مرحلة جديدة ستشهد هزات قبل استقرار الليرة وتخفيض نسبة التضخم التي تراجعت الشهر الماضي إلى ما دون 40%.
استثمارات وتعاون اقتصادي بين تركيا ودول الخليج
وحول العلاقات مع دول الخليج خلال المرحلة المقبلة من حكم الرئيس أردوغان، أكد كاتب أوغلو أن تركيا تجمعها علاقات قوية مع كافة دول مجلس التعاون الخليجي، وقال: "هناك الكثير من الاستثمارات الخليجية والتبادل التجاري بين دول الخليج وتركيا، وهناك تبادل للزيارات بين المسؤولين ورجال الأعمال في البلدين، وتنسيق عالي المستوى في الشأن الاقتصادي، ومن المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة مزيدا من التعاون خصوصا بعد التقارب الحادث حاليا في ما يتعلق بالعلاقات التركية السعودية، والتركية الإماراتية".
وفي رأيه عن العلاقات الاقتصادية مع مصر خلال المرحلة المقبلة، قال كاتب أوغلو: لا يختلف الأمر في ما يتعلق بمصر، فهناك مشكلات تحكم العلاقات معها من خلال الملف الليبي، حيث لا بد من تسوية هذا الملف من خلال التقارب مع مصر، ومن خلال شراكة تبدد المخاوف الأمنية التي أثرت بشدة على علاقات البلدين على كافة الأصعدة، خصوصا على الصعيد الاقتصادي، وفي الملف الاقتصادي يجب التحرك لدفع عجلة الاستثمارات الاقتصادية المجمدة بين البلدين والارتقاء بأرقام التبادل التجاري والوصول بها إلى ما يزيد على 30 دولارا.
انطلاقة كبيرة لاقتصاد تركيا بعد تغيير السياسة النقدية
من جانبه، يقول أحمد أويصال، رئيس مركز "أورسام" للدراسات التركية، لـ"العربي الجديد"، إنه على خلاف النظريات الاقتصادية التقليدية، يعتبر أردوغان، الذي انتخب لولاية ثالثة، أن معدلات الفائدة المرتفعة تؤجج التضخم. وانطلاقا من ذلك، أرغم البنك المركزي، خلال السنتين الماضيتين، على خفض معدلات الفائدة في إطار نموذج اقتصادي جديد يهدف إلى تشجيع النمو واستحداث الوظائف. لكن هذا النهج ساهم في الزيادة الحادة في التضخم الذي قارب 40% بوتيرة سنوية بحسب الأرقام الرسمية، كما كان له دور في تدهور العملة الوطنية التي خسرت أكثر من 80% من قيمتها في مقابل الدولار خلال 5 سنوات.
ويضيف أن معدلاً مرتفعاً للفائدة الرئيسية قد يساعد في إنعاش الاقتصاد التركي، وأن الفريق الجديد المكلف بالاقتصاد يبعث بإشارات توحي باعتماده مقاربة أبطأ. ويؤكد أن تركيا على أعتاب انطلاقة اقتصادية كبيرة، وهناك الكثير من الخطوات المقبلة التي تهدف إلى طمأنة المستثمرين، خصوصا في ما يتعلق بالليرة التركية وسعر الصرف، وهو ما يأتي بالتزامن مع تأكيدات من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير المالية بشأن مكافحة التضخم وتحقيق الاستقرار الاقتصادي اللازم.
توقع نمو مضطرد للاقتصاد التركي
واستطرد أويصال أنه في ضوء بدء الاستقرار السياسي وتشكيل الحكومة، وبدراسة الواقع الكلي من الناحية السياسية والاقتصادية، فمن المتوقع إحداث نمو مضطرد وسريع للاقتصاد، خاصة مع اتجاه عجز الميزان التجاري نحو التوازن والحصول على معادلة صفرية، واكتشاف مصادر محلية للخامات الصناعية مثل الليثيوم، ومع اكتشافات الغاز والبترول وما ينبثق عنها من مواد أساسية أخرى، واستكمال التنقيب شرقي المتوسط بعد اجتياز مراحل الخطر.
ودعا إلى العمل على تطوير البنية الهيكلية للتجارة الخارجية واللوجستيات المتعلقة بها، والمزيد من دعم المنتجين وفتح أسواق جديدة مع تقوية الاتفاقيات الحالية، وإعادة تقييم المشروعات الحالية وفتح مشروعات جديدة تناسب المرحلة الحالية، وتحجيم التضخم مع توسيع القطاع التعاوني وتشديد تشريعات مكافحة الاحتكار.
واستشهد أويصال على صحة توقعاته للأداء الجيد للاقتصاد التركي خلال المرحلة المقبلة بالإشارة إلى توقعات البنك الدولي المعلن عنها مؤخرا، وقال: "عدّل البنك الدولي توقعاته بشأن نمو الاقتصاد لعام 2023 بتحقيق نمو نسبته 3.2% صعودا من 2.7% التي كان توقعها مطلع العام الجاري".
كما رفع البنك الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد التركي لعام 2024 إلى 4.3% بدلا من 4% سابقا، وتوقع نموا بنسبة 4.1% في العام 2025، مشيرا إلى مواصلة تركيا تقديم إسهام مهم في نمو منطقة أوروبا وآسيا الوسطى.