احتمالات قوية لعودة أزمة الدولار إلى مصر

04 نوفمبر 2024
مكتب صرافة في القاهرة، 3 نوفمبر 2016 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت مصر أزمة حادة في نقص الدولار منذ مارس 2022، مما أثر على الصناعات والخدمات وتوفير الأدوية، رغم تحسن مؤقت بفضل صفقة رأس الحكمة التي وفرت 25 مليار دولار.
- تجددت الأزمة مع توسع الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، مما أدى إلى تراجع الأموال الساخنة وصافي الأصول الأجنبية، وتأجيل صندوق النقد الدولي موافقته على الشريحة الرابعة من القرض.
- يواجه ميزان المدفوعات المصري تحديات كبيرة مع ارتفاع عجز الميزان التجاري وتراجع إيرادات قناة السويس، مما يتطلب تبني سياسة اقتصادية جديدة تركز على الإنتاج والاستثمار.

لا تحتاج بعض القضايا الاقتصادية إلى مزيد من التحليل أو التفكير، فحينما يكون لدى دولة ما عجز في مواردها الدولارية، واستطاعت أن تخرج مؤقتًا من تلك الأزمة عبر مسكنات متمثلة في إيرادات غير دائمة، فمن الطبيعي أن تعود المشكلة كما كانت، بل أشد.

يُلحظ في مصر أنّ الوضع المالي يشهد زيادة حدة أزمة نقص الدولار منذ مارس/آذار 2022 حتى أوائل 2024، إذ نشطت السوق السوداء، وجرى فرض القيود على سحب الدولار من البنوك، وكذلك وُضعت قيود على الواردات، شملت بعض السلع الأساسية، ما أدى إلى تعطل بعض الصناعات والخدمات، وأوجد أزمة في توفير بعض الأدوية الضرورية.

وبالعودة إلى الوراء، نلحظ أن أزمة الدولار في مصر ظلت مستحكمة، حتى أتت صفقة رأس الحكمة لتوفر سيولة دولارية بنحو 25 مليار دولار خلال الفترة من فبراير/شباط إلى مايو/أيار 2024، وصاحبت ذلك انفراجة في شرائح صندوق النقد الدولي، ما ساعد على سداد بعض التزامات الدين الخارجي، وتحسين أداء الأصول الأجنبية بالجهاز المصرفي، وهدأت كذلك أزمة السوق السوداء للدولار، ورُفع رصيد احتياطي النقد الأجنبي، الذي وصل نهاية سبتمبر/أيلول الماضي إلى 46.7 مليار دولار.

بوادر تجدد الأزمة

لكن مع التطورات الخاصة بالحرب الإسرائيلية على غزة وتوسعها لتشمل لبنان، بدأت الأموال الساخنة في مصر تأخذ حذرها، فتقلصت في أغسطس/آب الماضي بنسبة 7% - 8%، حسب تصريح رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي. وكانت تقديرات البنك المركزي حول الأموال الساخنة في مصر أنها بلغت 37.4 مليار دولار في مايو 2024. وإن كانت بيانات البنك المركزي قد كشفت في النشرة الإحصائية لشهر يوليو/تموز 2024 أن رصيد الأجانب من أذون الخزانة قد تراجع في يونيو/حزيران 2024 بنحو 6.6 مليارات جنيه، مقارنة بما كان عليه الوضع في مايو، وبلغت نسبة التراجع قرابة 0.3%.

وإذا كان رئيس الوزراء قد أشار في أغسطس إلى أن الأموال الساخنة تراجعت بنسبة 7% – 8%، أي بعد البيانات الرسمية للبنك المركزي، فمعنى ذلك أن معدل خروج الأموال الساخنة في تزايد. ويساعد على هذا الاستنتاج أن الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان لا تزال قائمة وتتوسع مع الوقت، ولا تلوح في الأفق بادرة حلول سلمية بشأنها.

وعلى الجانب الآخر، تفيد بيانات البنك المركزي أن صافي الأصول الأجنبية بالجهاز المصرفي المصري أخذ في التراجع في أغسطس 2024 بنحو 3.5 مليارات دولار، إذ بلغ 9.7 مليارات دولار، بينما كان في يوليو 13.2 مليار دولار.

وتضيف بيانات المركزي المصري أن الأصول الأجنبية للبنوك التجارية تحولت إلى عجز بعد أن كانت وصلت إلى مرحلة الفائض، وقدر العجز في الأصول الأجنبية لتلك البنوك بنحو 535 مليون دولار. وهذا التراجع في الأصول الأجنبية للمصارف إنما ينم عن المزيد من الاستخدامات الدولارية، سواء من قبل الحكومة أو القطاع الخاص أو العائلي، ما يؤدي إلى استدانة البنوك من الخارج، ويتوقع ألا تكون هناك صفقات مماثلة لرأس الحكمة في الأجل القصير، كما أجّل صندوق النقد الدولي، مؤخراً، موافقته على الشريحة الرابعة من قرضه لمصر، ما يبعث برسائل سلبية للمستثمرين الأجانب في الأموال الساخنة.

ميزان المدفوعات ينذر بالخطر

ميزان المدفوعات للعام المالي 2023/ 2024 يبين أن المشكلة المتعلقة بوضع الدولار في مصر مستمرة، وأن التحسن الحاصل في الميزان المالي والرأسمالي ناتج عن زيادة تدفقات الأجانب في الدين الحكومي، وكذلك الأموال الناتجة عن صفقة رأس الحكمة. وبينما تحقق البيانات الرئيسة لتدفقات النقد الأجنبي، التي يعتمد عليها الاقتصاد المصري ولها صفة الديمومة، أداءً سلبياً، فنجد أن عجز الميزان التجاري ارتفع من 31 مليار إلى 39.5 مليار دولار، كما أن الصادرات السلعية تراجعت من 39 مليار إلى 32.5 مليار دولار.

وتراجعت الصادرات البترولية من 13.8 مليار دولار إلى 5.7 مليارات دولار، ليكون عجز الميزان التجاري لقطاع البترول نحو 7.6 مليارات دولار، ما يعني أن الأزمة مستمرة خلال الفترة القادمة في ظل تراجع إنتاج حقل ظهر، وكذلك زيادة الاستهلاك عن معدلات الإنتاج المحلي من النفط والغاز على مدار نحو سنتين، ما يجعل مصر مستورداً صافياً للطاقة، وبالتالي استمرار الاحتياج لتدبير نقد أجنبي.

أما الواردات غير البترولية، فزادت بنحو 1.3 مليار دولار عام 2023/ 2024، حتى وصلت قيمتها إلى 58.7 مليار دولار مقابل 57.3 مليار دولار العام الماضي. كما تراجعت تحويلات العاملين بالخارج بنحو 164 مليون دولار، حيث بلغت 21.9 مليار دولار مقابل 22.07 مليار دولار العام الماضي. والمؤشر السلبي هنا هو ما يخص تحويلات العاملين بالخارج، وإن تراجعت بنسبة طفيفة جداً. وفي نفس الوقت، لوحظ منذ عدة أشهر أن السوق السوداء بدأت تعاود نشاطها على استحياء، بسبب حاجة التجار والمصنعين للدولار.

ونتيجة للتداعيات السلبية على الاقتصاد المصري الناتجة عن تعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر، تراجعت إيرادات قناة السويس خلال عام 2023/ 2024 بنسبة 24% مقارنة بالعام الماضي، إذ بلغت 6.63 مليارات دولار بعد أن كانت العام الماضي 8.75 مليارات دولار.

تهديد الأموال الساخنة

وزير المالية السابق محمد معيط كان قد صرح بأنهم قد تعلموا الدرس، ولن يلجؤوا إلى الأموال الساخنة مرة أخرى، لكن بعد أن توصلت مصر إلى السماح بصرف باقي شرائح قرضها مع الصندوق، وتنفيذ بعض الاجراءات، من تخفيض قيمة الجنيه ورفع سعر الفائدة، أصبحت سوق الدين الحكومي المصري مهيأة لعودة تعامل الأجانب في أذون وسندات الحكومة، ما اضطر الحكومة للعودة إلى الأموال الساخنة لتخفيف وطأة أزمة العجز في النقد الأجنبي.

لكنّ عوامل هروب هذه الأموال مرة أخرى مرشحة بقوة خلال الفترة القادمة، لسببين، الأول قرار البنك الفيدرالي الأميركي خفض سعر الفائدة 0.5% وتوقعات مواصلة الخفض في الاجتماعات المقبلة للبنك، ومخافة أن تتجه مصر لإجراء مماثل وتخفض سعر الفائدة، والأمر الثاني زيادة المخاوف السياسية والأمنية بالمنطقة نتيجة حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة ولبنان.

لقد وضعت الحكومة المصرية نفسها تحت مقصلة الأموال الساخنة، التي هي مشكلة، في حالة وجودها أو خروجها، فوجودها يعني مزيداً من أعباء الدين، وخروجها يعني خللاً في سعر الصرف، وتراجع الاحتياطي النقدي، وإرباكاً في حركة الواردات وخلافه.

وإذا تحقق السيناريو الأسوأ القائم على افتراض خروج الأموال الساخنة، فسيكون الوضع في مصر مدعاة لمشكلات اقتصادية كبيرة، متمثلة في التضخم وخفض قيمة الجنيه، وانخفاض معدل المدخرات المحلية، واتجاه الأفراد للدولرة وشراء الذهب. وبالتالي، فالحل هو أن تتبنى مصر سياسة اقتصادية جديدة، وإن كانت تستلزم بعض الوقت إلا أنها ناجعة، وذلك بالعمل على تشجيع الإنتاج والاستثمار، بخاصة في القطاعات الرئيسة، من زراعة وصناعة، والبعد عن الاعتماد على القروض والأنشطة الريعية.

ولا بد من إعادة النظر في توجيه الاستثمارات المحلية والأجنبية، بحيث تبتعد عن قطاع السياحة والعقارات، أو المضاربات في البورصة وأدوات الدين الحكومية، فثمة مخاطر كبيرة يعيشها الاقتصاد العالمي، تستلزم بناء قاعدة إنتاجية قوية، والاعتماد على إيرادات حقيقية ولها صفة الاستمرار. كما أن ترشيد الإنفاق على المشروعات العامة أو القطاع العام، التي تستلزم تدبير نقد أجنبي، أصبح ضرورة ملحة لا ينبغي تأجيلها.