تعددت أسباب انخفاض أسعار النفط في مطلع الربع الثاني من العام الماضي، بين انكماش كبير في الطلب وتقلص مساحات التخزين المتاحة عالمياً بسبب تداعيات أزمة كورونا، والخلافات الكبيرة التي ضربت دول "أوبك+، وعلى رأسها السعودية وروسيا، اللتان لجأتا إلى إغراق الأسواق عقب فشلهما في التوصل إلى حلول لخفض الإنتاج، الأمر الذي أدى إلى هبوط الأسعار لما دون الصفر للمرة الأولى في تاريخها. انخفاض أسعار النفط الخام هدد بشكل مباشر اقتصادات تلك الدول التي تعتمد بصورة رئيسية على الصادرات النفطية، وخاصة دول الخليج، وإن تفاوتت معدلات تضرر تلك الدول حسب درجة اعتماد موارد كل منها على الايرادات النفطية.
أسعار التعادل للموازنات
فاقمت تقديرات أسعار النفط في الموازنات الخليجية أزمة انخفاض الأسعار، لا سيما في ظل الخلل الهيكلي الكبير لاقتصاداتها التي تعتمد على إيرادات صادراته كمصدر شبه وحيد للإيرادات العامة، وتكفي الإشارة هنا إلى أن صادرات النفط تشكل ما يزيد عن 80% من الصادرات الكويتية، وأكثر من 70% من الصادرات القطرية والسعودية.
ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن قطر تحظى بأدنى سعر تعادل لبرميل النفط بالنسبة لدول المنطقة بنحو 45.7 دولارا في 2020، وتأتي الكويت في المرتبة الثانية بقيمة 54.7 دولارا، ونحو 70.19 دولارا في الإمارات، و86.5 دولارا للسعودية، وأعلى قليلا في عمان بـ 87.26 دولارا، وأخيراً البحرين بنحو 95.14 دولارا. وتشير الأرقام السابقة إلى أن دول الخليج تحتاج إلى سعر يتراوح بين 55 دولارا تقريبا إلى ما يزيد عن 80 دولارا للبرميل لكي يتعادل جانبا الإيرادات والنفقات في موازناتها، وهو الأمر الذي يشير كذلك إلى الفجوة الكبيرة بينه وبين الأسعار العالمية حتى بعد ارتفاع الأسعار خلال الفترة الحالية، ما يعني تزايد عجز الموازنات بشدة، واضطرار تلك الدول إلى تنفيذ برامج تقشفية صارمة.
كما دفعت العجوزات الناجمة عن تراجع إيرادات النفط دول الخليج إلى التوجه بشكل غير مسبوق للاستدانة من الأسواق الدولية والمحلية، وكذلك السحب غير المسبوق من الاحتياطيات العامة.
الاقتراض والسحب من الاحتياطيات
في نهاية آب/أغسطس الماضي، قالت وكالة ستاندرد آند بورز غلوبال للتصنيفات الائتمانية إنها تتوقع أن يرتفع دين حكومات دول الخليج بمقدار قياسي يبلغ نحو 100 مليار دولار هذا العام، في ظل تنامي متطلبات التمويل بسبب أزمة فيروس كورونا وانخفاض أسعار النفط، وقدرت الوكالة أن الحكومات المركزية لدول مجلس التعاون ستسجل عجزاً مجمعاً بنحو 180 مليار دولار، سيجرى تمويل 100 مليار منها بالاقتراض وتوفير نحو 80 مليار دولار عن طريق السحب من أصول حكومية.
كما تواجه صناديق الثروة السيادية في دول الخليج تحديات على صعيد تفاقم الالتزامات المالية للموازنات العامة، وهو الأمر الذي قد يرجح احتمالية لجوء دول المنطقة إلى تسييل جزء من الاستثمارات الخارجية في صناديقها السيادية، لتخفيف حدة السحب من الاحتياطيات الأجنبية لدى البنوك المركزية، وعدم اضطراب أسعار صرف عملاتها.
ومن أبرز الأمثلة على الأزمة التي تعيشها دول الخليج أن دولة غنية مثل الكويت مطالبة بسداد أقساط ديون داخلية وخارجية بقيمة 14 مليار دولار خلال السنوات السبع المقبلة، منها 8 مليارات دولار سندات دولية تستحق في مارس/ آذار 2022، كما تحتاج، وفقا لتقديرات وكالة موديز، إلى تسييل 15 مليار دولار لتغطية نفقات الميزانية العامة خلال العام المالي المقبل (2021/ 2022)، ورغم أن هذه المبالغ صغيرة بالنسبة للاحتياطيات الكويتية، إلا أنها مؤشر مهم على ما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع الاقتصادية الخليجية مستقبلاً.
الزيادة لن تقلل حدة التقشف
ارتفعت أسعار النفط بشكل ملحوظ خلال الآونة الأخيرة حتى بلغت 70 دولارا للبرميل، وهو رقم قد يعوض جزئيا الخسائر السابقة، ولكن السؤال الآن هو: هل ينجح هذا الارتفاع في تخفيف وتيرة ووقع التقشف على الاقتصادات الخليجية؟
بداية، موجة التفاؤل بنجاح اللقاح قريباً في محاصرة انتشار الفيروس، وبالتالي تعافي الطلب وعودة التدفقات المالية، ما يؤدي إلى التقليل من حدة الموجات التقشفية على الشعوب الخليجية، يمكن وصفها بالحذرة والمبكرة. كما تجدر الإشارة إلى أن تعافي الاقتصاد العالمي لا يزال مضطربا إلى حد كبير، وهو ما ينعكس على تأرجح أسعار البترول صعوداً وهبوطاً خلال الأشهر الماضية.
كما أن أوضاع الاقتصادات الخليجية حالياً تختلف إلى حد كبير عن أوضاعها في الأزمات السابقة، فقد أصبحت للدول الخليجية احتياجات تمويلية أكبر وأصول خارجية أقل مقارنة بأوضاعها السابقة. كما أن هوامش الأمان المالي تدهورت خلال السنوات القليلة الماضية، ما يحد من مجال دعم النمو المتهاوي، ويتطلب إصلاحات تتخطى عجز الموازنات العامة.
أمر قد يتكامل مع احتمال فرض الجائحة استمرار الطلب عند مستوى منخفض لفترة أطول، ما يعني ببساطة أن التعويل على انتعاش أسعار النفط في إعادة ملء الخزائن مرة أخرى قد لا يكون في محله إلى حد كبير.
كما أن الأثر السلبي لتراجع الإنفاق الحكومي، الذي يُعد المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي الخليجي، قد يستمر خلال ما تبقي من العام الحالي، وأغلب الظن إلى نهاية العام القادم. ويشير ذلك بجلاء إلى ضعف إمكانية إزالة برامج التقشف الخليجية عن كاهل المواطنين، وربما يكون منتهى الأمل هو تخفيف حدتها، وهو الأمر المشكوك فيه غالباً.
الإصلاح أكبر من علاج عجز الموازنة
يبدو التركيز على هبوط أسعار النفط وتسببه في عجز الموازنات الخليجية مضللاً إلى حد كبير، فالاقتصادات الخليجية تعاني خللاً هيكلياً مزمناً باعتمادها على النفط كمورد شبه وحيد، ولا شك أن معظم دول الخليج حققت تقدماً محدوداً للغاية في تنويع اقتصادها خلال العقود الثلاثة الماضية، للحد من التعرض للتقلبات وعدم اليقين في سوق النفط العالمية، والمساعدة في خلق وظائف في القطاع الخاص، وزيادة الإنتاجية والنمو المستدام.
كما أُهملت التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي المباشر اللذان يقومان بدور كبير في تعزيز التنويع والنمو، كما يعززان تنشيط التكنولوجيا وتوطين المعرفة، وخلق بيئة أعمال أكثر تنافسية، وتعزيز الإنتاجية، وهي الأمور التي يمكن أن تساعد دول الخليج على الاندماج بشكل أفضل في سلسلة القيمة المضافة العالمية وجعل اقتصاداتها أكثر إنتاجية. لا ينقص الدول الخليجية المال للبدء في حركة تصحيحية كبرى لاقتصاداتها الوطنية، تستهدف التحول نحو الإنتاج وخلق القيم المضافة والتخفيض التدريجي للاعتماد على النفط، ولكن هذا يحتاج على التوازي انفتاحاً لا يقل أهمية في المجالات السياسية والاجتماعية والتشريعية.
وتبدو عواقب الأزمات السعرية النفطية المتكررة مؤخراً محفزات مهمة، ودلائل على أن الأوضاع لا يمكن أن تستمر على بطئها وعدم إعطائها الاهتمام الكافي، وأن السلطات عليها حسم هذا التردد قبل أن تتفاقم المشكلات، وينفد رصيد الحلول الممكنة.