يقول العديد من الأتراك إنهم يعيشون أصعب مرحلة معيشية منذ وصول الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" إلى السلطة عام 2002، فالارتفاع اليومي للأسعار بدد أجورهم رغم محاولات حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان المتتالية رفع الحد الأدنى وزيادة الرواتب، لتواكب الغلاء الذي ينسب الأتراك جله إلى عوامل خارجية، كما يقول الأكاديمي التركي وهبي بايصان لـ"العربي الجديد".
ويشير الأستاذ بجامعة ابن خلدون، خلال حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن ارتفاع أسعار الطاقة، والنفط الاحفوري خاصة، انعكس بشكل مباشر على الأسعار في تركيا، فبلاده التي تستورد أكثر من 360 مليون برميل نفط سنوياً تأثرت بارتفاع أسعار النفط عالمياً، ما دفعها لرفع الضريبة على المحروقات، ما انعكس على أسعار المنتجات الزراعية والصناعية فوراً، نظراً لكون المحروقات تدخل بجميع عمليات الإنتاج، وهي "سلعة تحريضية".
وكانت الحكومة التركية قد رفعت الأسبوع الفائت الضريبة على منتجات الوقود (بنزين، ديزل وغاز)، ليرتفع سعر اللتر بين 11 و12 ليرة تركية، ويصل سعر لتر البنزين إلى 34.54 ليرة، والديزل إلى 32.93 ليرة، ما تسبب في رفع جميع الأسعار، والتي كان آخرها الأحد رفع أسعار خدمة سيارات الأجرة بنحو 50% لتصبح أجرة أقصر مسافة 50 ليرة، وسعر افتتاح العداد 18 ليرة، وأجرة كل كيلومتر 15 ليرة تركية.
القرار، الذي يعتبره أستاذ المالية بجامعة باشاك شهير، فراس شعبو، "ضروريا"، ولكن "الأفضل لو كان وفق ضريبة الشرائح على حسب نوع السيارات وتاريخ صنعها، وبيع الوقود بأسعار تفضيلية للمنشآت الزراعية والصناعية".
تراجع سعر الليرة
ويضيف شعبو لـ"العربي الجديد" أن الفريق الاقتصادي الجديد يسعى لزيادة إيرادات الدولة عبر عائدات ضريبية جديدة ورفع أسعار الوقود، و"ربما رفع مستمر وانسحاب تدريجي من الدعم"، مؤكداً أن "نهج مد اليد على احتياطيات المصرف المركزي قد ولّى"، الأمر الذي ساهم، إلى جانب أسباب اقتصادية أخرى، في استمرار تراجع سعر صرف الليرة إلى نحو 27 مقابل الدولار الواحد، رغم رفع سعر الفائدة لمرتين متتاليتين.
ورفع المصرف المركزي التركي، الخميس الفائت، سعر الفائدة بمقدار 250 نقطة أساس، لتصل إلى 17.50%، مع التأكيد على مواصلة تشديد السياسة النقدية "إلى حين حدوث تحسن كبير في توقعات التضخم".
وتراجع التضخم في تركيا في يونيو/حزيران مسجلا 38.2% على أساس سنوي في أدنى مستوى له منذ 18 شهرا، وفق ما أظهرت بيانات هيئة الإحصاء التركية، التي أشارت أخيراً إلى أن نسبة التضخم على أساس شهري بلغت في يونيو 3.92%.
لكن شعبو يتوقع عودة التضخم للارتفاع خلال الشهر الجاري، بسبب استمرار ارتفاع الأسعار وتراجع سعر الليرة التي فقدت نحو 32% من قيمتها منذ نهاية مايو/أيار الماضي.
وارتفع التضخم السنوي في تركيا إلى أعلى مستوى في 24 عاما عند 85.51% في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن معدلات التضخم هبطت إلى 38.2% بحلول يونيو/حزيران الماضي، جراء إجراءات حكومية عدة، منها تقديم الحكومة الغاز مجانا إلى الأسر.
وبحسب تصريحات رسمية، تسعى تركيا إلى خفض التضخم إلى أقل من 25% بنهاية 2023، وإلى أرقام أحادية مرة أخرى حتى نهاية 2025.
هضم زيادة الأجور
ويتحدث الاقتصادي التركي مسلم أويصال، لـ"العربي الجديد"، عن مستوى الأسعار اليوم قياساً بالأجور "حتى بعد رفع الحد الأدنى والزيادات"، إذ لا يقل إنفاق الأسرة "بالحد الأدنى" عن 700 ليرة تركية، بعد ارتفاع أسعار الأدوية اليوم بنحو 30%، والمحروقات الأسبوع الماضي بنسبة "عالية جداً"، ما رفع أسعار الخضر والفواكه واللحوم (البندوة 30 ليرة، والخيار 25، واللحمة 400 ليرة)، وارتفاع أسعار أجور النقل، و"الأخطر أجور المنازل التي ارتفعت أكثر من 400% خلال عامين، بحيث يدفع التركي الذي لا يملك منزلاً راتبه لقاء الإيجار"، وفق قوله.
وكان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قد توعّد مستغلي حاجة المواطنين ورفع قيمة الإيجار، معلناً بعد عودته من جولته الخليجية،عن عزمه فرض ضرائب عالية على المنازل الفارغة، وذلك في سعي الحكومة لمواجهة استمرار أزمة ارتفاع الإيجارات في تركيا، وخاصة في المدن الكبرى.
وأوضح أردوغان أن الحكومة تعمل على موضوع أزمة الإيجارات والمنازل الفارغة، وأنهم بصدد التعامل بصرامة مع هذه المشكلة، قائلاً: "لا يمكننا التضحية بسبب طمع أقلية قليلة"، متوعداً بأنه "لن يبقى هؤلاء الأشخاص بلا عقاب. إذا لزم الأمر سنلجأ إلى العقوبات لوقف زيادة الإيجارات المفرطة وأسعار العقارات"، معتبراً أن رفع أصحاب المنازل الإيجار "سيقلل من قوة المواطنين الشرائية ومواجهة الحكومة للتضخم، وأي شخص يلجأ إلى زيادة الأسعار بشكل مفرط في أي موضوع، ويعكر توازن السوق بسلوكه، سيتعرض للعقاب".
لكن الاقتصادي أويصال، الذي لا ينكر استغلال معظم ملاك المنازل لحاجة المواطنين، يرى "العلة" بسعر العملة المنهار، ويعتبر أن "الحل في استقرار وتحسين سعر صرف الليرة الذي لن يتحقق إلا بعد توازن الميزان التجاري الخاسر، والتخلص تدريجياً من الديون الخارجية وأقساطها، وضرب المستغلين والفاسدين بيد من حديد، لأن هؤلاء يؤثرون على سمعة الاستثمار في تركيا، والذي يأتي في مقدمة عوامل الخلاص من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد".
وحول جدوى زيادات الأجور والحد الأدنى لأجور القطاع الخاص ورفع أجور العاملين بالدولة، يرى أويصال أن "التضخم يأكل تلك الزيادات، بل ربما بطرح نقد تركي جديد بالسوق يزيد التضخم، فالحل يبدأ من السبب وليس الغرق بالنتائج ومجاراة أسعار السوق"، متوقعاً أن نسبة الفقر بتركيا "زادت أو تضاعفت"، لأن "إنفاق الأسرة يزيد عن ضعف الأجر، ولا مجال إلا لعمل اثنين أو أكثر بكل أسرة".
ويشكك أويصال بجدوى سياسة الحكومة على المدى القريب والمتوسط على الأقل، محذراً من مشاكل اجتماعية في حال "زاد التخلي عن المواطنين، وركزت الحكومة على عائدات الخزينة وفرض الضرائب وزيادة الاحتياطي الأجنبي بالمصرف المركزي، وتجاهلت الشعب".
توقعات مستقبلية
وكانت الحكومة التركية، بالاتفاق مع ممثلي العمال وأرباب العمل، قد رفعت الشهر الماضي الحد الأدنى للأجور في البلاد من 8500 إلى 11 ألفا و402 ليرة بزيادة بلغت 34% مقارنة بالمستوى المحدد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهي نسبة متقاربة مع ما خسرته الليرة التركية.
كما رفعت تركيا، منذ يوليو/ تموز الجاري، أجور العمالة الحكومية في البلاد بنسبة 45 بالمائة، ليرتفع أدنى راتب للعمال الحكوميين إلى 15 ألف ليرة تركية، ويزيد متوسط الأجور عن 22 ألف ليرة تركية.
وتطرح تساؤلات اليوم في تركيا عن جدوى سياسة الفريق الاقتصادي الجديد الذي يقوده وزير المال محمد شيمشك الذي ينعته أتراك بـ"وزير الضرائب"، مستندين إلى سياسته خلال تبوئه وزارة المال خلال حكومتين سابقتين.
المحلل وهبي بايصان يرى أن نهج الحكومة الجديد سيحسن سعر الصرف ويخفض التضخم، ولكن على المدى البعيد، لأن الأسباب "ليست محلية فقط، بل ثمة أزمات عالمية انعكست على تركيا، اقتصادية كانت، في اتصال بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الأولية، أو سياسية، وأهمها الحرب على أوكرانيا".
ويتوقع الأكاديمي التركي استمرار الحكومة برفع حوامل الطاقة (نفط وكهرباء)، ورفع نسب الضرائب وفرض أخرى جديدة، لتزيد معاناة الأتراك خلال المدى القريب والمتوسط، ولكنه يرى "انفراجات مقبلة، خاصة لجهة جذب الاستثمارات، الخليجية والدولية، بعد النهج الليبرالي الذي يتبعه وزير المال شيمشك، والذي سيبدد مخاوف الرساميل التي كانت تتوجس من تدخل الساسة بالقرار الاقتصادي، وتعزيز الثقة بالمناخ التركي".
ويشير المتحدث ذاته إلى أن بدء استثمار تركيا للطاقة المكتشفة (الغاز)، وجذب الأموال والمشاريع، بالتوازي مع زيادة الصادرات عن 254 مليار دولار العام الماضي، وجذب السياح ، كل ذلك "سيوصل البلاد لحلمها في دخول نادي العشرة الكبار".
وكان وزير المال التركي قد أكد أن حكومة بلاده عازمة على تحقيق الاستقرار المالي على المدى القصير، مضيفاً، خلال تصريحات: "سياساتنا الاقتصادية تهدف إلى ضمان استقرار الأسعار وتحقيق الاستقرار المالي على المدى القصير، ونحن مصممون على تحقيق هذه الأهداف"، مبيناً أن "هذه المرحلة بدأت مع بيان البنك المركزي برفع سعر الفائدة، وستتم إدارة هذه المرحلة بحزم وبشكل تدريجي".
وشدد شيمشك على أهمية "الانضباط المالي"، وتخفيض التضخم إلى أقل من 10% للنمو الاقتصادي، وأوضح أن بلوغ الاستقرار المالي الكلي سيكون من الأولويات لزيادة الرفاهية الاجتماعية، كاشفاً عن خطوات الخطة التي تعتمد أولاً على التزام الشفافية، والاتساق، والقابلية للتنبؤ، وامتثال المعايير الدولية، وهي ستكون مبادئنا الأساسية في الفترة المقبلة.