من المطاعم الصغيرة إلى شركات التكنولوجيا المتقدمة وحقول الغاز الرئيسية، تتعرض الشركات الإسرائيلية لضربة موجعة بسبب التصعيد مع المقاومة الفلسطينية، إذ لا تلوح في الأفق نهاية قريبة وحاسمة للحرب التي باتت قريبة إلى سيناريو الاستنزاف، ما يدخِل القطاعات الاقتصادية الإسرائيلية في دوامة من الانهيارات تزيد فاتورة مخصصات الدعم المحلية أو الدولية عبر الداعمين، على رأسهم الولايات المتحدة الأميركية.
وطاولت الخسائر قطاعات البنوك والأسهم وأسواق التجزئة والمطاعم والسياحة والبناء والتكنولوجيا، ما دفع مئات الاقتصاديين إلى توجيه رسالة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، مفادها أنهم لا يستوعبون حجم الأزمة التي يواجهها الاقتصاد.
فقد ضربت عملية "طوفان الأقصى" التي شنتها المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، اهتمامات المستثمرين الأجانب بالسوق الإسرائيلية في العمق، إذ اندفع الكثيرون إلى تسييل محافظهم في سوق المال.
الخسائر المالية فادحة بالفعل، فالأسهم الإسرائيلية هي الأسوأ أداء في العالم منذ اندلاع التصعيد. وانخفض المؤشر الرئيسي في تل أبيب بنسبة 16% من حيث القيمة الدولارية، مع خسارة ما يقرب من 25 مليار دولار من قيمته خلال نحو ثلاثة أسابيع فقط.
وحذر 300 من كبار الخبراء الإسرائيليين، من أن الاقتصاد الإسرائيلي يمر بوقت صعب، بشكل يستوجب إجراءات فورية لمنع وقوع مزيد من الضرر، وفق تقرير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، أمس الاثنين. وطالب الاقتصاديون في رسالة إلى نتنياهو ووزير المالية بـ"اتخاذ إجراءات لمنع وقوع أضرار كبيرة على الفور".
ووفق الرسالة، فإن "الضربة القاسية التي تلقتها دولة إسرائيل تتطلب تغييراً جذرياً في ترتيب الأولويات الوطنية، وتحويلا للميزانيات لمصلحة معالجة أضرار الحرب ومساعدة الضحايا وإنعاش الاقتصاد"، مشيرة إلى أن "النفقات المتوقعة بعد الحرب ستكون بعشرات مليارات الشواكل، بل أكثر من ذلك".
ويقارن الكثيرون عمليات الإغلاق التي أضرت بالاقتصاد البالغ حجمه 520 مليار دولار بجائحة فيروس كورونا، إذ أصبحت المدارس والمكاتب ومواقع البناء فارغة، أو تفتح لبضع ساعات فقط في اليوم. كذلك، حشدت إسرائيل عدداً قياسياً من جنود الاحتياط بلغ نحو 360 ألف جندي قبل هجومها البري على غزة، مما أدى إلى استنزاف ما يقرب من 8% من قوة العمل.
انهيار مفاجئ في مختلف الأنشطة
أدى الاستدعاء العسكري وتجميد الاقتصاد بشكل جزئي إلى انهيار مفاجئ في مختلف الأنشطة، وقلب كل شيء من الأعمال المصرفية حتى الزراعة. يكلف الاستدعاء الحكومة ما يعادل 2.5 مليار دولار شهرياً، وفقاً لبنك "مزراحي طفحوت"، أحد كبار المقرضين الإسرائيليين، فيما حذر البنك المركزي من أن التأثير سيتفاقم كلما طال أمد الصراع.
بدوره، انخفض الشيكل إلى أضعف مستوى له منذ عام 2012، على الرغم من إعلان البنك المركزي عن حزمة غير مسبوقة بقيمة 45 مليار دولار لدعمه، وهو يتجه نحو أسوأ أداء سنوي له هذا القرن، فيما ارتفعت تكلفة التحوط ضد المزيد من الخسائر.
بالنسبة لنعمة زيداكيهو، التي تمتلك مطعمين في موديعين مكابيم ريعوت، وهي بلدة تقع بين القدس المحتلة وتل أبيب، فإن الأزمة جعلتها تفكر في تسريح موظفيها البالغ عددهم 70 موظفاً مؤقتاً.
وقالت وفق تقرير لوكالة بلومبيرغ الأميركية: "حاولت فتح المطاعم للمرة الأولى بعد أسبوعين ونصف الأسبوع، لكنها فارغة، لذا سأغلقها مبكراً. طلبات التوصيل ليست كافية لاستدامة العمل".
وسيحدد النطاق الجغرافي للتصعيد ومدته، التأثير الاقتصادي على المدى الطويل. إذ وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي، يوم السبت الماضي، الحرب على قطاع غزة بأنها ستكون "طويلة وصعبة". وفي ظل قراءة التطورات على الأرض، توقع بنك "جيه بي مورغان" الأميركي أن ينكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 11% على أساس سنوي في الربع الأخير من العام الجاري الذي بدأ في الأول من هذا الشهر.
وقال البنك في مذكرة، يوم الجمعة الماضي، إن عمليات التصعيد الأخيرة التي خاضتها إسرائيل، بما في ذلك تصعيد عام 2006 مع "حزب الله" اللبناني، وآخر مع المقاومة الفلسطينية في عام 2014 والذي استمر لنحو سبعة أسابيع وتضمن هجوماً برياً على غزة، "بالكاد أثرت على النشاط، لكن التصعيد الحالي كان له تأثير أكبر بكثير على الأمن والثقة الداخليين".
وستختبر الحرب الدائرة قدرة إسرائيل على الصمود. وانهار إنفاق الأسر، ما أحدث صدمة كبيرة لقطاع المستهلكين الذي يمثل نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي. كما انخفض الاستهلاك الخاص بنحو الثلث في الأيام التي تلت اندلاع التصعيد، مقارنة بمتوسط أسبوع في عام 2023، وفقاً لغرفة مقاصة نظام المدفوعات في إسرائيل "شفا". وانخفض الإنفاق على أمورٍ مثل الترفيه والتسلية بنسبة تصل إلى 70%.
صناعات وفروع بأكملها لا تستطيع العمل
وفيما قالت الحكومة إن العجز المالي قد يزيد بأكثر من ضعفي توقعاتها السابقة هذا العام والعام المقبل، أصدرت كلّ من وكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيفات الائتمانية، ووكالة "موديز" لخدمات المستثمرين، و"فيتش" للتصنيفات الائتمانية، تحذيرات بشأن توقعات ديون البلاد، مما جعل إسرائيل أقرب إلى التخفيض الأول على الإطلاق.
وقال روي كوهين، رئيس اتحاد الشركات الصغيرة لبلومبيرغ "صناعات وفروع بأكملها لا تستطيع العمل. لقد قرر معظم أصحاب العمل بالفعل منح موظفيهم إجازة غير مدفوعة الأجر، مما أثر على مئات الآلاف من العمال".
وتبدد الحرب الحالية التي تعد أسوأ تصعيد مسلح تدخله إسرائيل منذ 50 عاماً، مكاسب الرفاهية التي نعم بها الاقتصاد على مدار عقود ماضية بدعم من صادرات التكنولوجيا واكتشافات الغاز الطبيعي البحرية وارتفاع مستويات المعيشة، إذ ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقرب من 55 ألف دولار، متجاوزاً دولاً مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا.
ومع سيطرة التخطيط للحرب والأمن على أجندة الحكومة، تتزايد الضغوط من أجل الإغاثة الاقتصادية، فيما تعهد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بتحفيز أكبر من ذلك الذي حدث خلال جائحة كورونا.
كما أن انهيار الأنشطة الاقتصادية سيحرم الحكومة من عائدات ضريبية كبيرة. على سبيل المثال، سيؤدي التوقف عن البناء والعقارات، التي تساهم بنسبة 6% من عائدات الضرائب في إسرائيل، إلى تقليص دخل الحكومة، ويمكن أن يؤدي إلى ارتفاع متجدد في الأسعار في سوق الإسكان الذي كان من بين أغلى الأسواق في أوروبا والشرق الأوسط في السنوات الأخيرة.
كما أنه مع تحول الاقتصاد إلى حالة الحرب، فإن مغادرة الموظفين تؤدي أيضاً إلى قلب شركات التكنولوجيا رأساً على عقب. وجرى استدعاء حوالي 15% من القوى العاملة في مجال التكنولوجيا في إسرائيل للخدمة الاحتياطية، وفقاً لتقديرات شركة "ستارتاب نيشن سنترال"، وهي مجموعة غير ربحية تتتبع نشاط القطاع التكنولوجي.
وتأتي الأزمة بينما كانت الموارد المالية لشركات البناء ضعيفة بالفعل بسبب ارتفاع أسعار الفائدة منذ أوائل العام الماضي. وقد تجد العديد من الشركات أن الوفاء بالتزاماتها يزداد صعوبة، وهو ما يعتبر احتمالاً مقلقاً بالنسبة للبنوك، حيث إن نصف قروضها التجارية توجهت لصناعة البناء والتشييد.
كما أن من بين 500 شركة للتكنولوجيا الفائقة شملها استطلاع، وفق بلومبيرغ، أفاد ما يقرب من النصف بإلغاء أو تأخير اتفاقية استثمار. ومن بين المشاركين في الاستطلاع، بما في ذلك الشركات المملوكة محلياً ومتعددة الجنسيات، قال أكثر من 70% منهم إنه تم تأجيل أو إلغاء مشاريع كبيرة.
خسائر فادحة لأسهم البنوك
وبينما بدت البنوك الإسرائيلية قبل الحرب استثمارا آمنا مع أرباح قياسية مجمعة بلغت 14 مليار شيكل في النصف الأول من العام 2023، فإن الحرب تبدد هذه المكاسب، إذ تعرضت أسهم البنوك لضربة موجعة. ومنذ بداية الحرب هوت أسهم كبرى البنوك بما يتراوح بين 17% و22%، بينما من غير المرجح أن يكون هذا هو القاع بالنسبة لها، وفق تقرير لصحيفة "غلوبس" الاقتصادية الإسرائيلية.
ويقول ألون جليزر، نائب رئيس الأبحاث في شركة Leader Capital Markets، للصحيفة الإسرائيلية إن "المستثمرين الأجانب يقومون ببيع أسهم البنوك، وهي خطوة مفهومة للغاية من جانبهم.. بجانب الأضرار المتوقعة على أنشطة البنوك وزيادة المخاطر بسبب الحرب، هناك عامل آخر يؤثر على القطاع وهو أن البنوك واحدة من القطاعات الوحيدة التي يوجد فيها استثمارات أجنبية كبيرة".
ووفق ميكا غولدبيرغ، رئيس أبحاث الأسهم في شركة بساجوت للأوراق المالية، فإن البنوك من بين القطاعات الأكثر تعرضا للمستثمرين الأجانب، مضيفا أن الانهيارات التي تتعرض لها الأسهم ترجع إلى أنها من بين أكثر الأسهم سيولة في بورصة تل أبيب. كما قال عيدان أزولاي، كبير مسؤولي الاستثمار في شركة سيجما للاستثمار، إن البنوك هي نوع من المقياس للاقتصاد الإسرائيلي.
ومن المتوقع أن تضر الحرب بأنشطة البنوك. ويتمثل الخطر الرئيسي في زيادة صعوبة سداد القروض من جانب الشركات والأسر، خاصة في قطاع العقارات. وهو ما دفع وكالة التصنيف الإسرائيلية "ميدروج" إلى الاستشهاد بهذه المخاطر في تقييم وضع البنوك في هذه الفترة.