بينما كانت الحكومة الأميركية تتوسع في تقديم المساعدات للشركات والمواطنين، لمساعدتهم على تجاوز أزمة تراجع الإيرادات والدخول وتباطؤ النشاط الاقتصادي، في أعقاب ظهور فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وصل عجز الموازنة الأميركية خلال العام المالي المنتهي بنهاية الشهر الماضي إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه في العام السابق.
ووفقاً لمكتب الموازنة، التابع للكونغرس وغير المنتمي لأي من الحزبين، كان العجز، الذي تجاوز 15% من إجمالي النفقات الحكومية، وتسبب في تجاوز الدين العام نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، هو الأكبر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945، حين اضطرت الحكومة وقتها إلى تمويل عمليات عسكرية ضخمة.
وأكد المكتب أن زيادة الإنفاق الحكومي لم تكن وحدها المتسببة في تضخم العجز، إذ تزامنت تلك الزيادة مع تراجع الإيرادات الحكومية، نتيجة لأوامر الإغلاق الكبير التي استهدفت الحد من انتشار الفيروس، وهو ما أدى إلى اتساع الفجوة بين الإيرادات والمصروفات الحكومية.
وعلى الرغم من تسبب العجز في وصول الدين العام الأميركي لأكثر من 27 تريليون دولار لأول مرة في تاريخه، كان لافتاً للنظر توافق الحزبين، رغم حالة الانقسام السياسي التي تعيشها الولايات المتحدة قبل أقل من ثلاثة أسابيع على موعد الانتخابات الرئاسية، على ضرورة استمرار الحكومة الفيدرالية في الاقتراض من أجل توفير الأموال المطلوب تقديمها لتحفيز الاقتصاد والمساعدة في خروجه من الركود.
لم يكن توسع الاقتصادات الكبرى في الاقتراض وتقديم الإعانات للمواطنين وللشركات مقبولاً من الحكومات المحلية وحدها، وإنما دعمته أيضاً العديد من المؤسسات الدولية التي تعتبر نفسها الشرطي المسؤول عن سلامة الاقتصاد العالمي.
وقبل أيام، أيدت كارمن رينهارت، كبير الاقتصاديين بالبنك الدولي، توجه الحكومات الحالي بالتوسع في الاقتراض من أجل تمويل برامج تحفيز الاقتصاد لديها، رغم أنها أمضت سنوات طويلة من حياتها تحذر من التأثيرات السلبية الخطيرة للقروض وللأزمات المالية على اقتصادات الدول.
والأسبوع الماضي، وقبل أيام من موعد انعقاد اجتماعات الخريف لصندوق النقد والبنك الدوليين، والتي تعقد هذا العام من خلال تقنية الفيديو كونفرانس، قالت رينهارت، التي عملت لفترة أستاذة بجامعة هارفارد، إنه عند تفشي مرض مثل هذا، "ينبغي عليك أن تفكر في كيفية الانتصار في المعركة، ثم بعد ذلك يمكنك التفكير في كيفية دفع الثمن".
وقالت راينهارت، التي يحملها البعض مسؤولية مبالغة الحكومات في التقشف خلال العقد الماضي، في أعقاب الخروج من الأزمة المالية العالمية، إن الوباء وتأثيره الاقتصادي يمثلان أزمة ليس لها سابقة تاريخية، مؤكدةً أن التأثيرات السلبية للأزمة الحالية لم تحدث حتى خلال أزمة الكساد الكبير أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، مشيرةً إلى أن اتساع نطاق التأثيرات هو ما يجعل البنك الدولي، ضمن مؤسسات دولية كبرى، يتمنى شطب الديون، مؤكدةً أنه لا توجد دولة، أو مجموعة دول، يتوفر لها التمويل اللازم لسد الفجوات المالية الضخمة التي نشأت وتفاقمت بسبب الوباء.
توجه الحكومات والمؤسسات الدولية نحو التوسع في الاستدانة ربما يكون مقبولاً في حالة الدول التي لا تسعى للاقتراض، وإنما يسعى المستثمرون لإقراضها، ويلهثون لشراء سنداتها، وإن اقتربت معدلات العائد عليها من الصفر بالمائة، مهما طالت آمادها.
أما من يضطرون لدفع فائدة على القروض الدولارية تتجاوز 8%، وعلى القروض بالعملة المحلية تتجاوز 13%، ثم يغرون المستثمرين بضريبة على العائد تقل عما يتحمله مواطنو البلد، فلا ينبغي لهم الاعتماد على القروض، ولا يحق لهم التوسع في الاقتراض، حتى لا يتحمل المواطنون التكلفة في صورة تخفيض الخدمات الحكومية وتقليص موظفي الحكومة وتوجه نحو بيع الشركات المملوكة للدولة.
التوسع في الاستدانة يكون مقبولاً بلا شروط تتجاوز معدلات الفائدة، وتتعدى نطاق أسواق المال، أما الاقتراض من المؤسسات المالية، والخضوع لشروطها الخاصة بتعويم العملة المحلية، وتقليص الدعم، وتطبيق سياسات إفقار الشعوب سابقة التجهيز والمعدة في الخارج لخدمة المستثمرين الأجانب، فلا يعدو أن يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، أو كما نقول بالتعبير المصري كالذي يخرج من الحفرة ليقع في "دحديرة".
الحكومات التي تعوض مواطنيها عن فقدان وظائفهم نتيجة للأزمات الكبرى أو لتفشي الأوبئة، أو لتحفيز الاقتصاد ومساعدة الشركات والقطاعات المتأثرة، يحق لها الاقتراض لو كان لديها من الخطط ما يضمن تقليص القروض بعد مرور الأزمة. أما الحكومات التي تقترض فقط لإنقاذ ماء وجهها حين تزداد الضغوط عليها وتتعرى سياساتها الخاطئة فلا يحق لها ذلك.
لا مبرر للحكومات التي تعتمد على الأموال الساخنة في دعم عملتها واحتياطيات النقد الأجنبي لديها حين "تقع الفأس في الرأس" وتهرب تلك الأموال لدولها، فتقع الحكومات بين خيارين، إما الاقتراض لدعم العملة المحلية بالاستدانة، أو الاستسلام لضعف العملة، مع ما يترتب عليه ذلك من ضغوط تضخمية في بلد يستورد جزء كبير مما يأكله ويلبسه ويركبه ويتسلح به، ولا يصدر إلا أقل من ثلث ما يستورده. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلا الخيارين شديد المرارة!
التوسع في الاقتراض ربما يرتبط بمرحلة معينة، تمر فيها البلاد بأزمة، أو يحتاج خلالها الاقتصاد لبعض المحفزات، ثم لا يلبث أن ينتعش دون الاعتماد على تلك "المنشطات".
أما تبني الاقتراض، وخاصة بالعملة الأجنبية، كسياسة، فلا نشهد فيه إلا ارتفاعاً، ولا نسمع بخطط لتقليصه، ولا حتى مستويات أو نسب يتم عندها التوقف عن الاقتراض، فلا يعني إلا مزيداً من التورط في أزمات يتحمل عبأها أولادنا وأحفادنا، ولا يتوقف أثرها عند حرمان المواطنين من الموارد، ومن ثم تراجع مستوى الخدمات المقدمة لهم، بل يمتد ليقتطع من سيادتها، ويفرض عليها الاختيارات، ويجعلها كالدمية في يد مقرضيها.
في الألفية الثالثة، لم تعد الأسلحة الثقيلة هي أداة الاحتلال الوحيدة، ولا أظن أن أحداً لا يعي ذلك، الأمر الذي يجعلنا ننظر بعين الريبة لكل من يقع في شرك الاستدانة، أياً كان عدد وحجم الكباري التي بناها.