رغم قسوة الندرة، إلا أن لها فضيلة جوهرية، هي أنها تكشف ما قد تخفيه الوفرة من وجوه الخلل البنيوي وضعف الكفاءة، ولعلّ هذه هي المنحة في باطن المحنة التي يواجهها الاقتصاد المصري حالياً، فربما كانت فرصته التاريخية لاكتشاف حقيقة أدائه طوال العقود الماضية، ولوقفة مع الذات وتعبئة قواها كافة لمراجعة مُجمل مساره وجوهر توجّهه.
فرغم المشكلات الواضحة في السياسات الاقتصادية المُطبقة خلال العقد الأخير خصوصاً، فإن الحقيقة أن النموذج الاقتصادي المصري عموماً يعاني مشكلات جمّة هيكلية الطابع تتجاوز مجرد انحراف السياسات أو سوء إدارة الموارد، بل تذهب بعيداً لحدّ التجذّر في مُجمل البنية العامة للاقتصاد ومنطق عمله، ما يثبته أنه رغم كل برامج الإصلاح الاقتصادي وتحسين السياسات الحكومية، لا يزال الاقتصاد يعاني ذات المشكلات الهيكلية والاختلالات الكلّية، التي وصل بعضها إلى حدّ التأزم شديد الخطورة، كما هو واضح خصوصاً في العجز التجاري المُزمن واختناقات الموازنة العامة وتدهور سعر صرف العملة الوطنية إلخ، وكأنما لم تفعل هذه البرامج والتغييرات شيئًا يُذكر.
ويمكن للسجلات الرقمية أن تقول ما تشاء عن إنجازات النمو الكمّي وتحسّن المؤشرات الرقمية للاقتصاد في بعض الفترات، لكن يظل الواقع الحقيقي تحت هذه المظاهر العَارضة مختلفاً، ويطلّ برأسه كل بضع سنوات، مُتجسّدًا بأزمةٍ جديدة.
ولا أدل على ذلك من الحجج المتكررة من الحكومات المتعاقبة، تارة بالمظاهرات، وتارة أخرى بالكورونا، وتارة ثالثة بالحرب الأوكرانية، رغم أن أبسط مقارنة بكثير من الدول المشابهة لنا في ظروفنا، وربما التي تعاني ظروفاً أصعب بكثير، تكشف أن المشكلة الحقيقية هي هشاشة الاقتصاد الذي يتضرّر بشدة وبسرعة بأيّة أزمة.
وعلماً بأن هذا الاحتجاج بالأزمات ليس دفاعاً حقيقياً مُطلق المشروعية؛ لأنه من المُفترض بأيّة حكومة كفوءة الاهتمام برفع درجة مرونة وصمود اقتصادها وبلدها تجاه الأزمات (الصغيرة والمتوسطة على الأقل)؛ باعتبارها شيئاً يتكرر باستمرار، وجزءاً من طبائع الحياة.
الأمر الذي أصبحت له دراساته وبرامجه العلمية والتطبيقية في جميع أنحاء العالم، بدءاً من محاولات التنبؤ بها قبل حدوثها بمؤشرات وأدوات للإنذار المُبكر والتحوّط المُسبق قدر الإمكان.
والواقع أن ثنائية التعويمات المتتالية والمديونية المتزايدة طوال العقد الأخير قد كشفت حقيقة قد تبدو غريبة على من اعتادوا الاستهلاك الأعمى للبيانات الحكومية والأحوال الوردية، التي يتمركز في قلبها الخطاب الاقتصادي المُبتذل عن معدلات النمو الكمّية، التي تجاوزت معدل الـ5% في بعض السنوات، ووصلت بالناتج المحلي الإجمالي (المفهوم المُستهلك إعلامياً لكن محدود الدقة العلمية) لمصر لما يفوق الـ400 مليار دولار، بما يضعها في مصاف الاقتصادات المتوسطة عن جدارة.
هذه الحقيقة هي أن الاقتصاد المصري لا يحقّق نمواً صافياً حقيقياً ذا بال، بل يعيش فعلياً حالة من الركود المُزمن، وخصوصاً في العقد الأخير.
فبالنظر في تطور الناتج المحلي الإجمالي طوال العقد الماضي (حسب بيانات موقع statista)، مع تعديل قيمته بتخفيضات سعر صرف الجنيه، نجد أنه كان يبلغ 248 مليار دولار تقريباً عام 2011، نما بعدها وصولاً إلى 345 ملياراً عام 2016.
ثم أتت جرعة التعويم الأولى أواخر العام، بانخفاض عملة صافٍ بنسبة 55% (من 7 إلى 15.75 جنيهاً للدولار)، لتعود بإجمالي قيمته إلى ذات مستوى عام 2011 تقريباً، عند 247 مليار دولار عام 2017 (شاملة نمو ذلك العام).
وبعدما عاد ليرتفع إلى مستوى 423 مليار دولار عام 2021، أتت تعويمات العام الأخير، بدءاً من مارس 2022، بإجمالي نسبة انخفاض عملة 48% تقريباً (من 15.75 إلى 30.5 جنيهاً للدولار) لتعود به إلى ما دون المستوى السابق، عند قيمة تقديرية مبدئية 220 مليار دولار (فلم تصدر البيانات الفعلية بعد).
يعني هذا أنه كصافي نمو على مستوى كامل العقد الأخير، يمكن القول بأن الاقتصاد المصري لم يحقّق أيّ نمو فعلي، إن لم يكن قد انكمش عملياً، أو أننا بصيغة أخرى لم نتحرّك من مكاننا اقتصادياً منذ عام 2011، إن لم نكن قد تدهورنا (وهو الشيء الواضح بالطبع في متوسطات الدخول ومستويات المعيشة).
إذ لم يتوقّف الأمر على هذا الركود المُحبِط للناتج الإجمالي على مستوى كامل العقد، بل تضاعفت ديوننا الخارجية لصناعة نمو شحمي غير مُستدام، كانت جرعات التعويم المتتالية سُرعان ما تحيله رماداً، لتعود بالناتج الإجمالي لسابق سيرته ومستواه، وكأن نمواً لم يكن، فيما بقيت الديون بنوعيها كعبء مستقبلي لا مهرب منه في الأفق المنظور، فما بالك لو خصمنا "القيمة الحالية" للخارجية منها من الناتج!
لكن الواقع أن هذا الطابع الركودي المُزمن لا يقتصر على العقد الأخير وحده، بل نلحظ نمطاً عاماً مهيمناً على نمو الاقتصاد المصري طوال النصف قرن الماضي، هو تقلّبه الشديد ارتباطاً بتقلب الموارد الريعية، الخارجية في معظمها.
وهو ما رصده الدكتور حازم الببلاوي رئيس الوزراء الأسبق، عندما أشار إلى أن مصر قد حقّقت نمواً مرتفعاً خلال الفترة (1974-1985) مع المساعدات الكبيرة من الأشقاء العرب واستعادة قناة السويس وحقول النفط في سيناء وارتفاع تحويلات العاملين بالخارج.
ثم تراجعاً في النمو في الفترة (1986-1991) مع انخفاض أسعار البترول وأثره السلبي على عوائد صادراته المصرية وتحويلات العاملين بالخارج والأثر السلبي لحالة عدم الاستقرار الداخلي والعمليات الإرهابية على عوائد السياحة.
ثم عاود النمو التحسّن خلال الفترة (1992-1998) بعد مكافأة مصر على مساهمتها في حرب الخليج بإسقاط جزء معتبر من ديونها، وبمساعدات كبيرة من الخليج العربي، ليتراجع مرة أخرى خلال الفترة (1999-2003) مع تدهور عوائد السياحة بسبب العمليات الإرهابية وانخفاض أسعار النفط وآثار الأزمات المالية أواخر القرن العشرين.
وسيراً على ذات النمط، حقّقت مصر نمواً كمّياً معتبراً طوال العقد الأول اللاحق بدفع من طفرة أسعار النفط التي تبعت الغزو الأميركي للعراق.
يعكس هذا اعتماد نمو الاقتصاد المصري طوال نصف القرن المذكور على التدفقات الخارجية، الريعية بالأساس، وعجزه عن النمو الذاتي المُستقل بقدراته المحلية؛ بشكل يتراجع معه أداؤه مع كل تراجع أو اختناق في هذه الموارد، أو زيادة في الاحتياجات بشكل يضغط عليها.
وبما قد يفسّر جزئياً الاتجاه للإفراط في الاقتراض أخيراً كحل تعويضي لقصور الموارد أحياناً، وكوسيلة لخلق تدفقات إضافية لحفز النمو أحايين أخرى، خصوصاً أن لمصر سابقة كارثية في هذا المسار، عندما كانت على وشك الإفلاس أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ذلك العقد الذي نسخته الإدارة المصرية الحالية بشكل أسوأ، خصوصاً من جهة توظيف ما استدانته من قروض.
ولا يوجد ما هو أكثر دلالة على هذا الجفاف الاقتصادي -الناتج من ضعف القدرة على النمو الذاتي- من ذلك اللجوء المحموم لبيع الأصول الرابحة لمستثمرين أجانب، فحتى لو كان في مظهره مجرد إجراء استثنائي ناتج من ظروف خاصة كما تصوّره التصريحات الرسمية، فإنه يظل يعكس المشكلة الجوهرية المتعلقة بالعجز عن النمو الذاتي بشكل يخلق موارد متجددة لا يضطر معه البلد إلى هذا الخُسران المُهين.
وتتعدد أسباب هذه الحالة الركودية، ما بين البُنى المتشكّلة تاريخياً وديناميات إعادة إنتاجها، لكن في المستوى الإمبريقي المباشر، الذي يعكسها جميعاً، دون أن يصحّ اختزالها فيه كما يفعل الخطاب الاقتصادي السائد.
يبرز أولاً تبديد الفائض الاقتصادي بما ينعكس في ضعف الادخار والاستثمار، خصوصاً مع تراجع الاستثمار العام دونما تعويض موازِ من الاستثمار الخاص.
فيما يعزّزه ثانياً، والذي لا يقل خطورة، انزياح الاستثمارات المحدودة، بعد ذلك التبديد الإهداري والضعف الادخاري، وبما فيها الجزء الأغلب من الاستثمار العام نفسه، بعيداً عن القطاعات السلعية والأنشطة الإنتاجية، إلى القطاعات الخدمية والأنشطة التجارية والريعية، محدودة المُضاعفات الاستثمارية والتشغيلية.
ومن ثم محدودة الآثار التوسعية الإنمائية على الاقتصاد؛ بما يضعف بمجموعه "الكفاءة الخارجية" للاقتصاد، المُتعلّقة بأنماط التخصيص والتطوّر النوعي والقطاعي؛ بشكل يحدّ من إمكانات النمو والتشغيل طويلَي الأجل، فيعزّز حالة الركود بنيوياً.
لا عجب في هذا السياق أن يصبح النمو السكاني هو المشكلة المركزية -بمنظور البروباغندا الرسمية- في اقتصاد راكد لا يحقّق نمواً حقيقياً وتشغيلاً مُستداماً؛ فحيث لا تنمو القدرات الإنتاجية المحلية.
ولا يمكن ضمان استمرار التدفقات الخارجية؛ لا تزداد كعكة الاقتصاد بشكل مستمر، ولا تخلق معها بالتالي فرص عمل جديدة كافية؛ فيصبح أي وافدين جُدد عبئاً إضافياً يتقاسمون ذات الكعكة الصغيرة؛ بما يقلّل أنصبة الجميع منها؛ فما بالنا إذا كانت الكعكة غير مُوزّعة بعدالة ابتداءً؛ وكل تقاسم جديد يفاقم التناحرات المكتومة المُهدِدة للاستقرار السياسي المتدهور بفعل أزمة مشروعية وفاعلية متأصّلة تاريخياً.
ولا تنفصل حالة الجفاف الاقتصادي هذه عن غياب أيّة استراتيجية تنموية واضحة تتعامل مع حالة الركود المتأصلة في الاقتصاد، بل يبدو الأمر مُتسقاً مع وصف الخبراء الدوليين الكلاسيكي لسياسات مصر الاقتصادية بكونها "سياسات من اليد إلى الفم"، الذي وثّقه الدكتور خالد إكرام، مدير مكتب البنك الدولي بمصر لأكثر من ربع قرن (1975-2000)، في كتابه "الاقتصاد المصري في نصف قرن" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2021).
فلا تعدو الاستراتيجية المصرية في حقيقة الأمر كونها مجرد محاولة يائسة مستمرة لـ"ترحيل الركود"، لا معالجته فعلياً، ترحيل لا يزال يعتمد بشكل شبه حصري على التدفقات الخارجية وسدّ فجوات العجز بمساعدات وقروض خارجية وطباعة نقد مع كل أزمة.
لا عجب أنه مع الاتجاه العام لانتهاء القوة الدافعة للطفرة النفطية في المنطقة، أن ازداد تأزّم الاقتصادات العربية الأكثر اعتماداً على التحويلات من المراكز النفطية، وهى لبنان ومصر.
فالمُعضلة أنه ليس ركوداً عَرضياً ناتجاً من ظروف سياسية خاصة، ولا ركوداً دورياً تقليدياً مدفوعاً بدورات قطاعية وائتمانية كلاسيكية، بل ركود بنيوي تاريخي مُتعدد المستويات، مُتصل بطبيعة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية بمُجملها، أولاً بموقعها التابع المُتخلف نوعياً ضمن تقسيم العمل الدولي، وثانياً بانحرافها الريعي بميله لتثبيط نمو القدرات الإنتاجية وتبديد الفوائض الاقتصادية، وثالثاً بإطارها المؤسسي الاحتكاري المُعادي لديمقراطية السوق والدولة؛ ومن ثم لتداول الموارد الاقتصادية والمواقع الاجتماعية.
يعني هذا أنه شيء لا تمكن معالجته بمجرد سياسات مالية ونقدية وما شابه من سياسات "إدارة التوازن الكلي" التقليدية محدودة الطابع والنطاق، التي تركّز عليها معظم برامج الإصلاح التي ترعاها المنظمات الاقتصادية الدولية.
بل إن سياسات إصلاح السوق وتطوير المؤسسات الأكثر تقدماً نفسها، إن لم تتأطّر بسياسات تنموية أشمل لتعبئة الفائض الاقتصادي داخل الحدود الوطنية ولأكفأ الاستخدامات الإنتاجية، متزاوجةً مع إعادة هيكلة قطاعية وتكنولوجية شاملة للاقتصاد، فإنها لن تؤتي أيّة ثمار حقيقية.
بل قد تعمّق تبعية الاقتصاد خارجياً وانحرافه الريعي داخلياً؛ ومن ثم استمرار عجزه عن النمو الذاتي المُستقل جوهر الإشكالية كلها، واستمرار استراتيجية ترحيل الركود العقيمة متزايدة التأزّم.
لهذا ربما كانت الأزمة الحادة الحالية، أياً كانت أسباب تفاقمها وتسارعها، وبغضّ النظر عن آلامها القاسية التي سنتحمّلها لأجيال قادمة، هي الفصل الأخير في حياة نموذج اقتصادي غير مُستدام وبلا مستقبل منذ البداية.
نموذج زومبي لم يفعل -بدعم من طفرة النفط المواتية- سوى دفع مصر إلى التواكل عن القيام باستحقاقاتها التنموية التاريخية ولإضاعة عقود في ترحيل الركود التاريخي لاقتصاد شبه صناعي، بدلاً من مواجهته بمعالجة جذر المرض.