يواجه الاقتصاد الأميركي مجموعة من الأزمات، على رأسها التضخم وسقف الديون واحتمال الدخول في دورة ركود خلال العام الجاري. وتفاعلت هذه الأزمات بسبب سياسة " التيسير الكمي"، أو معالجة أزمات الاقتصاد بضخ الأموال الوهمية، و"تسعير النقود" التي تعني سعر الفائدة.
أدت هذه السياسات النقدية والمالية إلى ارتفاع إجمالي سوق الأسهم والسندات إلى قرابة 91 تريليون دولار، منها 40.511 لسوق الأسهم و51 تريليون دولارلسوق السندات، حسب بيانات اتحاد البورصات والأوراق المالية الأميركي، أو مايعادل قرابة 4 أضعاف حجم الاقتصاد الأميركي المقدر بنحو 25 تريليون دولار.
في المقابل، فإن العجز بالميزانية الأميركية يتواصل التراكم لتصل خدمة الديون السيادية وحدها نحو 534 مليار دولار سنوياً وباتت تأكل جزءاً كبيراً من الميزانية الأميركية التي بلغت 3.35 تريليونات دولار في العام 2021 ـ 2022. كما أن الدولار القوي الذي سبب العديد من المشاكل لدول العالم بات يدفع العديد من الدول نحو البحث عن بديل.
ويرى محللون أن مشاكل التضخم والفائدة المرتفعة وإفلاس البنوك تعود في جزء كبير منها إلى سياسة " التيسير الكمي" أو معالجة أزمات المال "بطباعة النقود" وإنقاذ طبقة "الأكثر ثراء" التي تمثل نسبة واحد في المائة من المجتمع الأميركي وتجاهل الأغلبية تحت مسمى السوق الحر.
وحسب وكالة التحليل الاقتصادي الأميركية، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحالي بنسبة 9.2 في المائة، أو 2.15 تريليون دولار، في عام 2022 إلى مستوى 25.46 تريليون دولار، مقارنة بزيادة قدرها 10.7 في المائة، أو 2.25 تريليون دولار، في عام 2021.
لكن هذا الارتفاع هو ارتفاع اسمي وليس حقيقيا لأنه بحساب حسم معدل التضخم فهو أقل من ذلك كثيراً، ولذا فإن هنالك انفصاما واضحا بين الاقتصاد الحقيقي وأسواق المال، حيث لم تعد سوق المال الأميركية تعكس مؤشرات الاقتصاد الحقيقي، وإنما بات الاقتصاد يسبح في فضاء مختلف عن أسواق المال التي يملكها أصحاب الثروات ولهم القدرة على المضاربة في الأسهم وفق محللين.
ولاحظ اقتصاديون أن الأزمات المالية التي بدأت خلال القرن الجاري بأزمة المال العالمية في 2008 ربما ستتواصل مرة بعد أخرى، ما لم تتجه أميركا لتعزيز الإنتاج بدلاً من التركيز على أسواق المال.
في هذا الشأن، يقول وزير العمل الأميركي الأسبق وأستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا ببيركلي ومؤلف كتاب "إنقاذ الرأسمالية من القلة وتوظيفها للكثيرين والصالح العام" الذي صدر حديثاً، روبرت ريتش، إن الرأسمالية الأميركية تحتاج إلى حواجز صارمة لحمايتها من تغول القلة المتملكة للمال، وإلا فإن الاقتصاد سيخضع لأزمات دورية تستدعي عمليات إنقاذ حقيقي من الانهيار.
ويرى أن نظرية السوق الحر لم تعد تطبق في أميركا، وإنما ما يطبق حالياً هو تطبيق سياسة الاشتراكية للأثرياء، بينما يخضع باقي المجتمع لعقوبات قاسية.
ويضيف أن النظام يكافئ قلة الأثرياء على حساب الأغلبية، حيث يتم إنقاذ المصرفيين والبنوك الكبرى عبر سياسة " التحفيز الكمي" أو ضخ الأموال المجانية في النظام المصرفي والأسواق المالية، بينما الأشخاص العاديون الذين لا يستطيعون دفع قروضهم العقارية يخسرون منازلهم.
وبحسب وزير العمل الأميركي الأسبق: "يحدث ذلك في الوقت الذي لا يزال ما يقرب من 30 مليون أميركي يفتقرون إلى التأمين الصحي ومعظم العمال الذين فقدوا وظائفهم ليسوا مؤهلين للحصول على تأمين ضد البطالة، معظمهم ليس لديهم إجازة مرضية مدفوعة الأجر، كما ترتفع عمالة الأطفال الآخذة في الارتفاع وحوالي 51 مليون أسرة لا تستطيع تحمل النفقات الشهرية الأساسية مثل تغطية مصروفات السكن والغذاء ورعاية الأطفال والنقل.
ويرى اقتصاديون أميركيون، أن سياسة التيسير الكمي تعمل في الاتجاه المعاكس. فعلى المدى القصير، فإنها توفر حافزًا نقديًا. ومع ذلك، على المدى الطويل، فإنها تخلق حالة من عدم الاستقرار النقدي الذي يقضي على الغرض الكامل من وجود بنك مركزي.
من جانبه، نصح الاقتصادي بجامعة هارفارد لاري سمرز ووزير الخزانة الأسبق في عهد الرئيس كلينتون، مجلس الاحتياط الفدرالي بالتخلي عن سياسة " التحفيز الكمي". وقال سمرز إن سياسة" التيسير الكمي" أدت إلى 3 أزمات للاقتصاد الأميركي.
ويرى اقتصاديون أن سياسة ما يسمى بالتيسير الكمي أدت إلى بقاء أسعار الفائدة المصرفية منخفضة في البداية وأفادت الأثرياء، لكن هذا الحقن الهائل لـ"رأس المال الوهمي" في النظام المالي الأميركي، أدى تلقائياً إلى خلق الضغوط التضخمية التي اجبرت مجلس الاحتياط الفدرالي على الرفع السريع والمتواصل لأسعار الفائدة.
لكن هذه المشاكل لم تتضح على الفور بعد أزمة المال في العام 2008، نتيجة للانهيار وقتها في الطلب على السلع والخدمات، بما في ذلك استهلاك الأسرة، وتراجع الاستثمار في الأعمال التجارية والإنفاق الحكومي.
لكن مع مرور الوقت بعد أزمة المال أدى انخفاض الأجور وارتفاع معدلات البطالة إلى خنق الطلب، والذي لم يعد من الممكن تعويضه فقط بالائتمان، لأن المستهلك كان مثقلاً بالديون. ولكن الضغوط التضخمية ظهرت في طفرة سوق الإسكان وخاصة في موجة المضاربة غير المنضبطة في البورصات وظهور العملات المشفرة وعمليات المضاربة على الأسهم. وأدت في النهاية إلى عودة التضخم.
وعلى الرغم من أن الحرب الأوكرانية فاقمت من ارتفاع معدل التضخم في أميركا، إلا أنها لم تكن السبب الحقيقي في ارتفاع التضخم ولكنها أضافت المزيد من الوقود إلى نار الأسعار بسبب العقوبات الغربية على موسكو التي عطلت التجارة من روسيا.
وتعد روسيا من أهم الدول المصدرة للنفط والغاز والمعادن التي تدخل في الصناعة والعقوبات. وعلى الرغم من أن الحرب لم تسبب الأزمة، فمن المؤكد أنها أدت إلى تفاقم مشكلة التضخم وتعطيل التجارة العالمية. وقد لجأ مصرف الاحتياط الفيدرالي إلى معالجة التضخم عبر زيادة نسبة الفائدة التي هددت بسقوط الاقتصاد في الركود وارتفاع الدولار.
وبات الارتفاع الذي لا يقاوم للدولار عاملاً رئيسياً في زعزعة الاستقرار في سوق المال الأميركي بـ"وول ستريت". وأدى إلى قلق المستثمرين من مستقبل الاستثمار في أدوات المال الأميركية بسبب احتمال دخول الاقتصاد في دورة ركود خلال العام الجاري.
ودفعت سياسة رفع أسعار الفائدة المتواصل الذي نفذه بنك الاحتياط الفيدرالي منذ مارس/آذار 2022 الاقتصاد الأميركي إلى حافة الركود. كما أدت تلقائياً إلى اندلاع أزمة البنوك الجارية حالياً في الولايات المتحدة. كما رفعت من كلفة خدمة الدين الحكومي.
وتراجعت أسعار المساكن وباتت البنوك والمؤسسات المالية والاستثمارية تسرح الموظفين، وأدت الأزمات الاقتصادية إلى تحذير العديد من الشركات بشأن مستقبل أرباحها، وهو ما يرى محللون أنه ربما ينعكس على معدل البطالة وتدني دخل الخزينة من الضرائب.
ارتفاع الدولار
يعد الدولار المرتفع في الظاهر مفيداً للولايات المتحدة، حيث يساهم في قوة النظام المالي الأميركي ويوفر التمويل الرخيص للشركات والمستهلك الأميركي وجذب مزيد من الاستثمارات الخارجية. ولكنه في النهاية فإنه أدى إلى هزة السوق الأميركي.
ويرى محللون أن الارتفاع الذي لا يقاوم للدولار بات على الفور عاملاً رئيسياً لزعزعة الاستقرار في سوق المال الأميركي ب"وول ستريت". وأدى إلى قلق المستثمرين من مستقبل الاستثمار في أدوات المال الأميركية مثل السندات وأذون الخزانة بسبب احتمال دخول الاقتصاد في دورة ركود.
وانسحب القلق إلى الأسواق العالمية والدول الناشئة التي تخوفت من تداعيات الدولار القوي على اقتصاداتها، ورفع من احتمالات الإفلاس بسبب " الديون الدولارية" أو ما يسمى "يورو دولار".
وكانت لهذه المخاوف تداعيات سياسية على موقف العديد من الدول التي بدأت التفكير جدياً في التحول عن الدولار في الاحتياطات والتجارة إلى عملات أخرى أو إلى المقايضة والاحتماء باليوان الصيني في المبادلات التجارية.