لم نعد نُدَرّس في جامعاتنا، ولا حتى في معظم مدارسنا، المنطق، على الرغم مما قد يثيره ذلك من مقارنة مع مسرحية "مدرسة المشاغبين"، وكيف طوّرت تلك المسرحية فهماً للمنطق نابعاً من "ثقافة البوب" أو الـ "Pop culture" المصرية. وقد استدعى اهتمامي الحجم الهائل للأخطاء المنطقية البسيطة في تناول الإعلامين، العربي والإسرائيلي، وحتى الغربي أخبار القدس وغزة خصوصا، وفلسطين التاريخية عامة.
ولعل أجمل مقابلة رأيتها كانت التي أجرتها محطة الـ CNN إبّان الاعتداءات على المواطنين الفلسطينيبن في الشيخ جرّاح، إحدى ضواحي مدينة القدس المحتلة، مع الشاب دون العشرين سنة، محمد الكرد. وقد وزّعت فوراً تلك المقابلة على كل من أعرفهم، ليتعلّموا من هذا الشاب حضور الذهن ودينامية اللغة، وسرعة البديهة، وانسجام الأفكار. وفي نهاية اللقاء، تسأله مقدمة البرنامج الإخباري: "هل تؤيد استخدام العنف ضد الإسرائيليين؟".
والسؤال بحد ذاته معقد، لأن أي إجابة عليه تعني إدانته، فإذا أجاب أنه يؤيد العنف فهذا يجعله أمام الرأي العام الأميركي أقرب إلى تعريف الإرهابي في نظرهم، وإذا قال إنه لا يؤيد العنف فقد دان كل الفلسطينيين الذين يقاومون الاحتلال. ولكن الفتى الفطن لم يكن ليقع في هذا الفخ، فأجابها متسائلاً "وهل تؤيدين سلب الإسرائيليين بيتي؟ وماذا عليَ أن أفعل حيال ذلك؟".
وفي شريط آخر، نرى فلسطينياً من حي الشيخ جرّاح يحادث يهودياً متديناً: "ألا تدري أن البيت الذي تسكنه هو بيتي.. وأن حكومتك قد أخلتني منه بقوة السلاح وغلبة العدد؟"، فيردّ مغتصب البيت "إذا لم أسرقه أنا، فإن غيري سوف يسرقه".
هذه هي حجّة اللصوص والظالمين. هذا البيت كان سيُسرق، ولماذا لا أسرقه أنا؟ وإنْ لم أسرقه سوف يسرقه غيري".
وبهذا المنطق السخيف، تهدر حقوق الفلسطينيين أهل الأرض وأهل البيت، وهو تماماً يشبه إجابة مجرمٍ أردى شخصاً ما قتيلاً بالرصاص. وسألوه لماذا قتلته، فيجيب إنه ميت في نهاية الأمر لا محالة، وإن لم يمت برصاصي فسيموت بطريقة أخرى"... أليس لمثل هذا المنطق المعوج وضعت قوانين العالم؟ لأنه لو انتشر وصار قاعدة، لَعُدْنا إلى حياة الغاب.
ينساق بعض المتحمسين العرب إلى اقتباسات صادرة عن كتّاب ومؤرخين إسرائيليين أو من يهود العالم، تتنبأ بقرب نهاية إسرائيل. وبعض هؤلاء يتحدّث عن سقوط إسرائيل في سياق المنطق التاريخي لحياة الدول، ويقدّمون الدليل على ذلك. وهذا لا يُناقش بأسلوب منطقي بسيط.
أمّا أن يصدّق بعضهم، وفقاً لمعلومة انتشرت على المواقع، أن بنيامين نتنياهو يؤمن بذاك، فهذا استسلامٌ لمنطق الدغدغة العاطفية الحالمة، وقد أُخذ ما قاله نتنياهو من خطاب له يقول إن إسرائيل يجب أن تعتمد على نفسها، وتحافظ على تفوقها على جيرانها حتى تبقى وتستمر. وإن أهملت مفهوم القوة هذا، لن تبقى حتى تحتفل بمئويتها الأولى عام 2048.
ومثل هذا الاستنتاج لدى المتأملين بأن يتولّى القدر هذه المهمة يقع في الخطأ المنطقي المسمى “Fallacy of Accent” فيصبح له معنى غير الذي قصده قائل ذلك النص. وقد خَرَجَتْ إحدى الصحف ذات يوم بعنوان "انقلاب عسكري"، فهرع الناس لشراء الصحيفة من الباعة، ولمّا قرأوا القصة إذا بها تقول "أثناء عرض الفرسان في الاحتفال، انقلب عسكري برتبة لواء من فوق حصانه مغشياً عليه". أو ما ذكره الأديب والصحافي المصري أمين يوسف غراب في قصة قصيرة له بعنوان "سقطت الحكومة"، فتبين أن الصحافي الذي اقتبس الخبر عن مدير مكتب رئيس الوزراء، وهو يتحدّث هاتفياً، وكان يريد القول إن زوجة رئيس الوزراء الحامل قد أسقطت حملها وخسرت الجنين".
ولكن الذي أذهلني بروز السوشال ميديا الفلسطينية بشكل مميز، ومتفوقة بمراحل على نظيرتها الإسرائيلية. وبرز كثيرون من الشباب والصبايا، أصحاب القدرة الفذة على نقل أفكارهم ومواقفهم والصور الفوتوغرافية أو الفيديوهات المصورة لديهم بفعالية عظيمة. ولا يُنسى ما فعله شبّانٌ عرب مثلهم إبّان الربيع العربي، ومن قبل ذلك الشباب الأميركيون في انتخابات الرئاسة الأميركية التي مكّنت المرشح ذا الأصول الأفريقية، باراك أوباما، من الفوز بالرئاسة عام 2008، ومرة ثانية عام 2012. وواضح أن تطور الإعلام الفلسطيني بدأ يُحدث تعادلاً في الموقف العربي والفلسطيني مقابل الإعلام الاسرائيلي الصهيوني والمتحالفين معهم. وهذا أمر في غاية الأهمية.
منذ بداية القرن العشرين، وكل وسائل الإعلام، سواء الكتب، أو المجلات، أو الصحف، أو الأشرطة السينمائية، أو التلفزيونية، أو حتى وسائل التواصل الحديثة التي يملك بعضَها أشخاص من الديانة اليهودية، قد تآلفت عبر الزمان والمكان، لتصف العرب بكل تُهَم التخلف، والعداء للمسيحية، والتطرّف، والديكتاتورية، والغدر بالصديق، وبكره اليهود (اللاسامية)، وبالجهل بالحرب وأصولها. ثم بالإرهاب، حتى صار كره العرب (والإسلاموفوبيا) حقاً ربانياً لهؤلاء، يستخدمونه لتجريد العرب من كرامتهم، والفلسطينيين من حقوقهم، وهدر دمائهم. وقد حصلت أمور مشابهة لأهل القارة الأفريقية، حتى يستولي المستعمرون على ثرواتهم، ومع السكان الأصليين في الولايات المتحدة وأستراليا، ومعظم أميركا اللاتينية، وغيرها من الدول.
الآن، يلاحظ أن كل ما يرتكب ضد العرب خصوصا، والمسلمين عامة، قد بدأ يجد جواباً عليه، واقتربت الكفّتان من الرجحان، أو كادتا. وبدأت إسرائيل تخسر معركة الإعلام. لماذا حبسوا محمد الكرد بعد مقابلاته التلفزيونية المتميزة في الولايات المتحدة؟ ولماذا ضربوا المبنى الذي تتخذ منه قناة الجزيرة ووكالة أسوشييتد برس الأميركية في غزة؟
كل هذا لأنهم يشعرون بالخذلان. ويكفي أن تلقي نظرة على ما يقوله الناطق العسكري الإسرائيلي في حرب غزة أخيرا، لتعلم حجم التردّي في منطقهم.
هل بدأ العالم يعاني من "الإرهاق الإسرائيلي" "Israeli Fatigue”؟