منذ نحو سبعة أسابيع تقريباً لم يستطع الحاج وليد عبد الخالق الوصول إلى مستودعاته الرئيسية في بلدة حوارة جنوب مدينة نابلس في الضفة الغربية المحتلة، إلا يوم الأربعاء الماضي، بعد أن عزلها الاحتلال الإسرائيلي تماماً عن محيطها ومنع أصحاب أكثر من 500 منشأة اقتصادية من فتح أبوابها، وذلك منذ اندلاع عدوانه الوحشي على قطاع غزة واعتداءاته على مناطق الضفة، ما ألحق به خسائر مادية فاقت خمسة ملايين شيكل (حوالى 1.34 مليون دولار).
يقول عبد الخالق لـ"العربي الجديد": "ما إن سُمح لنا بالوصول إلى محلاتنا، حتى وجدنا ما توقعناه تماماً، ألا وهو تلف كامل المواد الغذائية الموجودة داخل المخازن وفي الساحة الخارجية.. فعندما نفد رصيد التيار الكهربائي مسبق الشحن توقفت الثلاجات التي تحوي اللحوم والمشروبات بشتى أنواعها، التي تحتاج إلى تبريد على مدار الساعة، كما توقف عمل المكيفات. وفي ظل أن الأجواء كانت حارة معظم أيام الإغلاق فقد تلفت بقية المواد كالسكر والأرز والزيوت، في حين كانت هناك عشرات الأطنان في الساحات الخارجية تحت الشمس تنتظر دورها للتوزيع على الزبائن".
حاول عبثاً الحاج عبد الخالق ومعه أصحاب تلك المنشآت طيلة الفترة الماضية الحديث مع كافة الأطراف لتفقد محلاتهم على الأقل ولو مرة في الأسبوع، دون جدوى، فقد كان الاحتلال مصراً على منع أي فلسطيني من المرور حتى بمركبته من شارع حوارة الرئيسي، لكن الأخطر كان تهديدات المستوطنين وتحريضهم على صاحب كل منشأة يفتح محله، لتقوم سلطات الاحتلال إما باعتقاله أو تدمير محله.
ومن جنوب نابلس إلى غربها، خاصة في قرية دير شرف حيث وضع الاحتلال عقب بدء العدوان على غزة بوابة حديدية على مدخلها، وبات يتحكم في حركة المركبات دخولاً وخروجاً من وإلى نابلس. وعلى مقربة من البوابة توجد عشرة مطاعم ضخمة لشواء اللحوم والأسماك، وكانت تعتمد بشكل شبه كلي على الزائرين الآتين من المدن القريبة وعلى فلسطينيي الداخل المحتل.
يقول أحمد شحادة، وهو صاحب مطعم، وهو ينظر إلى المقاعد وقد علاها الغبار: "أخجل على نفسي أن أشكو من خسارة مادية وأهلنا في غزة يقدمون أرواحهم رخيصة، لكن حالنا يرثى له، فلم نفتح محلاتناً يوماً واحداً ولم يدخلها زبون واحد... تراكمت علينا الديون وأُجبرنا على تسريح أكثر من نصف العمال. فحسب معلوماتي، هناك ما لا يقل عن مائة عامل يعملون في المطاعم فقط، وأمثالهم يعملون في المولات والمتاجر المنوعة التي كانت مزدهرة على طول الشارع، الذي كان قبلة الضيوف في ساعات المساء تحديدا، ويبقى عامرا بالمتسوقين ورواد المطاعم حتى ساعات الفجر المتأخرة.
ويلفت شحادة، في حديث مع لـ"العربي الجديد"، إلى أن هناك خسائر ضخمة جداً لحقت أيضاً بما يزيد عن مائتي معرض للمفروشات، وجميعها أيضاً لم تبع قطعة أثاث واحدة، وتراكمت عليها الأجرة ومستحقات العمال "في وقت لم ترحمنا الوزارات ذات الصلة ولم تخصم دولاراً واحداً من الضرائب والالتزامات المترتبة علينا".
أحوال نابلس لا تختلف عن أسواق الضفة الغربية، فإجراءات الاحتلال وحواجزه العسكرية المنتشرة، والاقتحامات المستمرة للضفة الغربية، والتي تستمر كذلك حتى في ساعات النهار، أدت إلى ضرب اقتصاد الضفة الغربية.
آثار كارثية على الدخول
يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية سامح العطعوط لـ"العربي الجديد" إن "حالة نابلس لا تختلف كثيراً عن بقية الضفة الغربية، فقد تركت إجراءات الاحتلال الإسرائيلي التي شرع بها عقب عدوانه على غزة، آثاراً كارثية عليها من النواحي الاقتصادية".
ومن أبرز تداعيات تلك الإجراءات الاحتلالية توقف اليد العاملة داخل فلسطين المحتلة عام 1948 "فهناك ما لا يقل عن ربع مليون عامل فلسطيني (نصفهم يملك تصاريح رسمية من الاحتلال) توقفوا تماماً عن العمل هناك".
دخلُ هؤلاء العمال، وفق العطعوط، يشكل جزءاً كبيراً من دخل الاقتصاد الفلسطيني، وهو حسب التقديرات يفوق ملياراً و300 مليون شيكل شهرياً، ما يعادل تقريباً 16 مليار شيكل سنوياً (4.5 مليارات دولار)، كانت غالبيتها تصرف داخل أسواق الضفة الغربية، وقد توقفت تماماً".
ويلفت العطعوط إلى أن هؤلاء العمال يعدون من ذوي الدخل المرتفع مقارنة بما يتقاضاه العامل في الضفة الغربية، وبالتالي فهم يؤثرون بشكل كبير في دوران عجلة الاقتصاد المحلية.
يقول العطعوط: "طبعاً هذا يضاف إلى توقف المتسوقين من فلسطينيي الداخل عن القدوم للضفة بشكل كامل منذ ذلك الوقت، وهؤلاء أيضاً كانوا ينفقون أموالاً طائلة هنا، فمهما ارتفعت الأسعار تبقى أقل بكثير منها في الأسواق الإسرائيلية".
حبس الأموال وأزمة رواتب
سياسياً، توقفت حكومة الاحتلال عن إرسال أموال المقاصة للسلطة الفلسطينية التي تشكل العمود الفقري لميزانية الرواتب التي تصرفها الحكومة الفلسطينية برئاسة محمد اشتية لقرابة 245 ألف فرد، بين موظف ومتقاعد أو ممن يتقاضون المخصصات الشهرية منها، إذ كان آخر راتب تلقوه عن شهر سبتمبر/أيلول الماضي.
ومنذ نوفمبر/تشرين الثاني 2021 يتقاضى الموظفون العموميون رواتب منقوصة، أرجعتها الحكومة إلى اقتطاعات إسرائيلية من أموال المقاصة وتراجع المنح الخارجية.
وأدت الأجور المنقوصة للموظفين العموميين إلى ارتفاع مستحقاتهم على الحكومة العاجزة عن تقديم أجور كاملة، وفي الوقت ذاته الإيفاء بالتزاماتها تجاه المؤسسات الحكومية، وبقية النفقات. ويبلغ إجمالي قيمة الأجور الشهرية 950 مليون شيكل (نحو 255.3 مليون دولار) موزعة على الموظفين العموميين والمتقاعدين، وأشباه الرواتب (مخصصات الأسرى، والمخصصات الاجتماعية وغيرها).
ارتفاع تكاليف نقل البضائع
من الواضح كذلك الآثار المترتبة على تقطيع الاحتلال لأواصر الضفة الغربية، بنشره لأكثر من 300 حاجز عسكري ما بين ثابت ومتحرك بين المدن والبلدات الفلسطينية.
ويقول الخبير الاقتصادي نصر عطياني لـ"العربي الجديد" إن "انتشار الحواجز قلل من التنقل البشري بشكل ملحوظ، وضاعف من تكلفة نقل البضائع، فالطريق التي كانت تستغرق ساعة مثلاً بين نابلس ورام الله، تحتاج اليوم إلى أربع أو خمس ساعات، هذا عوضا عن احتجاز المركبات والشاحنات التي تقلّ البضائع لساعات طويلة، وفي كثير من الأحيان إجبار السائق على العودة من حيث أتى".
كما أنّ جزءاً كبيراً من الشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة تعتمد، وفق عطياني، على تسويق منتجاتها في أسواق قطاع غزة، "فالبضائع القادمة من الضفة كانت محل ترحاب في غزة، والعكس صحيح، لكن هذا التبادل التجاري إن جاز لنا تسميته بهذا الاسم، متوقف تماماً منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بنسبة 100%".
ويشير عطياني إلى أنه في ظل غياب أي حلول تقدمها الحكومة الفلسطينية وسلطة النقد للتعامل مع الحالة الراهنة، فإنه من المتوقع أن يتعرض الاقتصاد الفلسطيني الهش أصلاً لانكماش اقتصادي كبير بما لا يقل عن 10% إلى 15% من قيمته.