لا يكاد الاقتصاد العالمي يتعافى من أزمة حتى تلاحقه أزمة جديدة. وعلى الرغم من أن دول العالم تحاول استيعاب التأثيرات السلبية لأزمة جائحة كورونا ومن بعدها الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن، من خلال سياسات التشديد النقدي المستمرة منذ فترة اقتربت من العامين، إلا أن الاقتصاد العالمي من المتوقع أن يحقق خلال العام الحالي 2024 أدنى معدلات نموه خلال الثلاثين عاماً الأخيرة.
ومع مطلع العام الجديد، توقع البنك الدولي أن يسجل الاقتصاد العالمي انخفاضاً كبيراً في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، حيث سيتباطأ النمو العالمي، للعام الثالث على التوالي، من 2.6% في 2023 إلى 2.4% في عام 2024، أي أقل بنحو ثلاثة أرباع نقطة مئوية عن المتوسط السائد في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وبذلك تكون المعدلات المتوقعة هي الأدنى والأبطأ في فترة 5 سنوات على مدى 30 عاماً الماضية.
ومن المؤكد أن التوقعات السابق ذكرها للبنك الدولي لم تكن مفاجئة، حيث يعاني الإنتاج العالمي من استمرار التشديد في السياسات النقدية، واستمرار موجات التضخم، والضغوط المالية الحادة على موازنات معظم دول العالم، وانفجار أزمة الديون العالمية وتوالي سقوط الدول في براثن الإفلاس، بالإضافة إلى ضعف التجارة والاستثمارات على مستوى العالم، خاصة مع التطورات السلبية وتصاعد الهجمات الإجرامية الصهيونية على قطاع غزة وامتداده نحو الملاحة في البحر الأحمر.
الأزمة أكبر من ارتفاع تكلفة الشحن
تمر حوالي 12% من التجارة البحرية العالمية في مضيق باب المندب في جنوب البحر الأحمر، لكن منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وبعد هجمات الحوثيين على السفن المتجهة نحو الكيان الصهيوني، تراجعت حركة عبور الحاويات من هذا الشريان الحيوي بنسبة 70%، حيث فضلت الكثير من شركات الشحن الالتفاف عبر رأس الرجاء الصالح، على الرغم من زيادة زمن الرحلة الواحدة بمقدار أسبوعين، مما يعني بالضرورة زيادة التكاليف.
وانتهزت شركات النقل البحري الفرصة فرفعت رسومها بشكل حاد لتغطية النفقات الإضافية الناتجة عن هذه الأزمة، وهو الأمر الذي تسبب في تضاعف مؤشر شنغهاي القياسي للشحن بالحاويات، أحد المؤشرات المرجعية لقياس كلفة شحن البضائع من الصين.
وأشارت منصة Container x Change اللوجستية إلى أن التكلفة الزائدة على صعيد الوقود بلغت حوالي 20%، كما قدرت أن أزمة البحر الأحمر قد تؤدي إلى ارتفاع في تكلفة النقل البحري بنسبة 60%، مع فرض رسم زائدة بنسبة 20% على عقود التأمين لشركات الشحن.
وبحسب شركة "فريتوس" (Freightos)، وهي شركة لحجوزات شحن البضائع، فإنه بالفعل تضاعفت تكلفة شحن الحاويات من الصين إلى البحر الأبيض المتوسط بما يفوق 4 أضعاف منذ أواخر نوفمبر الماضي، وهو الأمر الذي دفع العديد من خبراء النقل البحري إلى التصريح بأن السرعة والحدة التي حدثت بها زيادات الأسعار نتيجة للأزمة الحالية مشابهة كثيرا لنظيراتها أثناء فترة اضطرابات كورونا.
وقد زاد من حدة تداعيات أزمة البحر الأحمر الجفاف الذي يضرب قناة بنما التي تباطأ مرور السفن عبرها بين آسيا الولايات المتحدة بشكل كبير، حيث كان يمر بها حوالي أربعين حاملة حاويات في اليوم، لكن هذا العدد تراجع إلى 24 في منتصف هذا الشهر.
وقد أعلنت شركتا "فولفو كار" و"تسلا" عن تعليق الإنتاج بمصانعها في أوروبا، مشيرة إلى أنها لم تستطع توفير قطع غيار من الموردين في آسيا، فيما أشارت شركتا تجارة التجزئة البريطانيتان "تيسكو" و"مارك أند سبنسر غروب" إلى وجود مخاطر من صعود التكاليف.
ولنا أن نتخيل تأثير تلك الاضطرابات في سلاسل الإمداد والتوريد على قطاع الأغذية، خاصة الطازجة منها والتي تحتاج لاختصار مسافة وزمن الرحلة لكي تحافظ على صلاحية المنتجات، وهو الأمر الذي بات مهدداً إلى حد كبير ويهدد بارتفاع أسعار الغذاء عالمياً.
وعلى الرغم من أن تأثير الأزمة لم يكن كبيراً حتى الآن على أسعار البترول، إلا أن التخوفات من اتساع نطاق الصراع واحتمال خنق تدفقات النفط، وانقطاع نسبة من الإمدادات، قد يشكل سيناريو يحيل الأوضاع إلى شكل أكثر كارثية من الأوضاع الراهنة.
البنوك المركزية لن تبدأ التيسير النقدي
ينتظر الجميع بداية مرحلة التيسير النقدي من خلال خفض البنوك المركزية الكبرى حول العالم لمعدلات الفائدة، الأمر الذي يعني تيسير الحصول على الأموال وعودة الروح مرة أخري للقطاعات الاستثمارية والاستهلاكية، التي تضررت بشدة جراء سياسات التشديد، وتسببت في تراجع النمو العالمي والمحلي للكثير من البلدان.
ولذلك بدأت الكثير من مراكز الأبحاث الكبرى في الحديث حول عودة معدلات التضخم للارتفاع مرة أخرى بفعل زيادة تكاليف الشحن الناجمة عن اضطرابات البحر الأحمر، حيث أشارت "بلومبيرغ إيكونوميكس" إلى أن المخاطر الصعودية جراء تكاليف الشحن قد تمنح البنوك المركزية سبباً آخر لتأخير تخفيضات أسعار الفائدة.
كما توقع خبراء اقتصاد في بنك الاستثمار الأميركي "جيه بي مورغان تشيس أند كو" زيادة 0.7 نقطة مئوية في تضخم السلع حول العالم خلال النصف الأول من العام الجاري، إذا استمرت أزمة الشحن.
كما حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، قبيل أيام، من أنه من غير المرجح أن تبدأ أسعار الفائدة في الانخفاض هذا الربيع.
كما حذرت النائبة الأولى للمدير العام لصندوق النقد الدولي، غيتا غوبيناث، من أن البنوك المركزية بحاجة إلى التحرك بحذر بشأن خفض أسعار الفائدة هذا العام، ذلك أن توقعات السوق بشأن سياسة نقدية أكثر مرونة يمكن أن تؤدي إلى اندلاع موجة أخرى من التضخم، فلا تزال الأسواق في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وأماكن أخرى تعاني بسبب ضيق أسواق العمل وارتفاع تضخم الخدمات، وأن تخفيض سعر الفائدة في هذه الظروف يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية.
بناء على ما سبق، يمكن القول إن أزمة ارتفاع تكلفة الشحن الناتجة عن الاضطرابات في البحر الأحمر لا تكمن فقط في ارتفاع بسيط أو عابر لأسعار السلع، ولكنها ستعمق أزمات الاقتصاد العالمي؛ حيث ستساهم في المزيد من قمع معدلات النمو التي كبتت طيلة العامين الماضيين تحت وطأة سياسات التشديد النقدي.