التحقيق مع رياض سلامة يجب أن يتوسّع

20 سبتمبر 2024
متظاهرون أمام قصر العدل في بيروت حيث يحقق مع رياض سلامة، 9 سبتمبر 2024 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تطورات قضية رياض سلامة:** القضاء اللبناني يحقق في ملف الحاكم السابق لمصرف لبنان، رياض سلامة، الذي أوقف وادعي عليه، مما يثير اهتمام الشارع اللبناني رغم الانشغال بالتطورات العسكرية في الجنوب.

- **شكوك حول جدية التحقيقات:** توقيف سلامة أثار شكوكًا حول جدية المحاسبة، خاصة مع الضغوط السياسية السابقة التي منعت إقالته أو توقيفه، مما يجعل اللبنانيين حذرين من التفاؤل.

- **ضرورة توسيع التحقيقات:** هناك مخاوف من حصر التحقيقات في شبهة تحويل 42 مليون دولار فقط، والمطلوب هو توسيع التحقيق ليشمل كامل عمليات "الهندسات المالية" وشبهات الاختلاس الصريح لضمان محاسبة شاملة وجدية.

ما زال القضاء اللبناني يتابع تحقيقاته في ملف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة فيما بدأت تتضح شيئًا فشيئًا طبيعة الشبهات التي جرى على أساسها توقيف الرجل، ثم الادعاء عليه من قبل النيابة العامّة الماليّة. وحتّى هذه اللحظة، ما زالت تطوّرات هذه القضيّة تحتلّ جزءًا أساسيًّا من اهتمام الشارع اللبناني وتساؤلاته، رغم انشغال اللبنانيين في الوقت نفسه بمتابعة التطوّرات العسكريّة في جنوب البلاد.

لطالما نظر اللبنانيون إلى رياض سلامة بوصفه مخزنًا لأسرار النخب السياسيّة والماليّة المحليّة. فهو الذي أشرف منذ التسعينيات على هندسة النموذج النقدي والمصرفي القائم، والذي تكامل طبعًا مع السياسات الاقتصاديّة والماليّة التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة. وبعد حصول الانهيار المالي في أواخر العام 2019، الذي عبّر عن انسداد أفق هذه السياسات، كان مصرف لبنان المطبخ الذي تعامل مع أوجه الأزمة المختلفة، بموجب تعاميم دوريّة متفرّقة.

بهذا المعنى، كان من الطبيعي أن يكون توقيف سلامة، ثم التحقيق معه، محورًا للكثير من الشكوك والهواجس. أي بصورة أوضح، لم يكن سهلًا على كثيرين أن يصدّقوا أنّ هذا الحدث سيكون بداية عمليّة مساءلة ومحاسبة جديّة، لرجلٍ يعرف أكثر ما يجب عن ارتكابات كبار النافذين محليًّا. وخلال الفترة الماضية، لم يثبت القضاء في تحقيقات انفجار المرفأ والجرائم الماليّة قدرته على تحدّي الضغوط السياسيّة، في ملفّات تمسّ كبار رؤوس النظام الطائفي القائم.

تعامل القضاء المحلّي مع ملفّات رياض سلامة طوال السنوات الماضية، كان يبرّر هذه الشكوك. فلبنان كان قد تلقّى أوّل طلب تعاون قضائي من المحاكم السويسريّة، بخصوص رياض سلامة، عام 2020، أي قبل نحو ثلاث سنوات من انتهاء ولايته حاكماً للمصرف المركزي عام 2023. ومنذ تلك اللحظة، كانت العديد من الدول الأوروبيّة تتوسّع في التحقيق بالشبهات التي تحيط بسلامة، بينما حظي الرجل بحماية سياسيّة محليّة، منعت إقالته من منصبه أو توقيفه.

لذلك، يحذر اللبنانيون حاليًّا قبل التفاؤل بتوقيف سلامة. فخلال السنوات الأربع الماضية، حفَل ملف سلامة القضائي بأحداث كانت تبدو في ظاهرها إيجابيّة، قبل أن يتبيّن أنّها مناورات تصب في خانة حمايته وتأخير لحظة المحاسبة المنتظرة. فعلى سبيل المثال، في شهر مايو/ أيّار 2023، احتفى كثير من اللبنانيين بخبر مصادرة القضاء اللبناني لجوازات سفر رياض سلامة، ومنعه من السفر. ثم سرعان ما تبيّن أن الخطوة أمّنت غطاءً قانونيًّا لسلامة، لتبرير تغيّبه عن حضور جلسات التحقيق التي دُعي إليها في ألمانيا.

قبل ذلك، في شهر حزيران/يونيو 2022، طلبت النيابة العامّة التمييزيّة الادّعاء على سلامة، وهو ما بدا تقدّماً لافتاً للنظر في الملف القضائي. غير أنّ هذه الخطوة كانت مقدّمة للمزيد من المماطلة، التي اتخذت شكل رفض بعض القضاة تسلّم الملف والتحقيق فيه، أو قيام فريق الدفاع القانوني عن سلامة بتقديم دعاوى لمخاصمة القضاة وردهم، ما يجمّد عملهم مؤقّتًا. وساهم الشغور في بعض المواقع القضائيّة في منع أو تأخير البت دعاوى المخاصمة والرد هذه.

اليوم، وعلى النحو نفسه بعد توقيف رياض سلامة تسرّبت إلى العلن بعض المؤشّرات التي تدفع إلى الخشية من مستقبل هذا الملف، أو إلى الطعن بجديّة التحقيق الراهن. فطبيعة استدعاءات الشهود والاستجوابات، توحي بتركّز التحقيق على 42 مليون دولار من الأموال العموميّة، التي جرى تحويلها من حسابات مصرف لبنان إلى بعض المقرّبين من رياض سلامة. وفي المقابل، يحاول سلامة إثبات أنّ التحويلات كانت مبرّرة، باعتبار أنّ مصدرها كان أمولًا خاصّة، وأن مصرف لبنان كان مجرّد وسيط في العمليّة.

لهذا السبب، يخشى كثيرون أن يتم حصر الملف المفتوح حاليًّا بهذه الشبهة فقط، في مقابل تجاهل شبهات أكبر وأكثر خطورة، مرتبطة بعمليّات أضخم. وهذا ما قد يُعين رياض سلامة نفسه، عبر مواجهته بشبهات يمكن استيعابها أو محاولة تبريرها، أو على الأقل تقليص عواقبها، بدل فتح جميع الملفّات الخطيرة الذي يصعب الدفاع قانونيًّا عنها. وقائمة الشبهات المحيطة برياض سلامة، والتي لم يطاولها التحقيق بعد، طويلة ودسمة.

المطلوب اليوم أن يتوسّع التحقيق ليطاول كامل عمليّات "الهندسات الماليّة"، التي جرت لحساب شركة "أوبتيموم" منذ العام 2015، والتي أنتجت أرباحًا وعمولات قيمتها 8 مليارات دولار، من دون أن تتضح هويّة المستفيدين من هذه الأموال. يومها، وكما بيّن تقرير التدقيق الجنائي الذي تناول عمل الشركة، وهب المصرف المركزي هذه الأرباح الفوريّة للشركة عبر بيعها أدوات ماليّة، ثم شراء هذه الأدوات بسعر أعلى في اللحظة نفسها، من دون تفسير هدف هذه العمليّات أو المنفعة العامّة التي تحققها.

أمّا شبهات الاختلاس الصريح، فيمكن التعمّق بها عبر الدخول في ملف شركة "فوري"، التي سجّلها رياض سلامة باسم شقيقه، للحصول على عمولات بقيمة 330 مليون دولار من أموال مصرف لبنان العامّة. تحقيقات النيابات العامّة الأوروبيّة تشتبه في أنّ الشركة لم تكن سوى كيانٍ وهميٍّ، حصل على العمولات مقابل خدمات وساطة مزعومة لم يتم تقديمها فعلًا، بهدف الحصول على المال العام بشكل غير مشروع. وعلى هذا الأساس، يُلاحق سلامة في محاكم عدّة دول أوروبيّة، بشبهة تبييض هذه الأموال في أسواق العقارات في أوروبا.

ومن المعلوم أن تقرير التدقيق الجنائي الذي أعدّته شركة "آلفاريز آند مرسال" بخصوص حسابات مصرف لبنان، كشف الكثير من عمليّات التلاعب المحاسبي التي قام بها سلامة، لإخفاء الخسائر التي تراكمت في ميزانيّة المصرف قبل العام 2019. وهذا ما طرح شبه التزوير في ميزانيّات المصرف، التي حققت بها النيابة العامّة في جبل لبنان في مرحلة من المراحل، من دون أن تتم متابعة هذه التحقيقات لاحقًا.

تطول لائحة الشبهات التي تورّط فيها سلامة في الماضي، والتي يفترض أن تكون جزءًا من التحقيق الراهن معه، بدل حصر المسألة في تحويل صغير قياسًا بحجم الفضائح الأخرى. غير أنّ التوسّع في التحقيقات، ذات الجانب التقني المعقّد، يستلزم انخراطًا أكبر من مصرف لبنان نفسه، في فتح الدفاتر والتعمّق في الحسابات، قبل تقديم الإخبارات اللازمة للقضاء. كما يستلزم مبادرة من جانب وزارة الماليّة، صاحبة الوصاية القانونيّة على مصرف لبنان، لاستكمال مسار التدقيق الجنائي، الذي اقتصر على تقرير أوّلي وعام حتّى هذه اللحظة.

على أي حال، من المهم الإشارة إلى أنّ الإعلام في لبنان رصد بعض المؤشّرات الأخرى، التي تدل على محاولة تحجيم الملف، أو تضييق نطاق التحقيقات القائمة مع سلامة، لتقتصر على ملف الـ 42 مليون دولار.

وهذا ما ظهر من خلال إقصاء هيئة القضايا اللبنانيّة، الكيان الرسمي الذي يمثّل مصالح الدولة في الادعاء على سلامة، عن حضور التحقيقات. وهذا ما بدا محاوَلةً لضبط إيقاع التحقيقات، ومنع اتجاهها نحو مسائل تتجاوز الحدود المرسومة للملف.

التفسير الوحيد لفتح ملف سلامة القضائي اليوم بهذا الشكل، ثم حصر نطاقه بشكل متقن، قد يكون سعي الطبقة السياسيّة والقضاء لاستيعاب الضغوط الخارجيّة، واحتمالات إدراج لبنان على القائمة الرماديّة لمجموعة العمل المالي. بهذا الشكل، يكون القضاء قد أخذ خطوة توحي بالاتجاه إلى مكافحة الجرائم الماليّة، وفقًا لشروط مجموعة العمل المالي، لكن من دون توسعة التحقيق ليطاول رؤوساً كبيرة أخرى. لكن في مقابل هذه المصالح التي حرّكت الملف القضائي، من الأكيد أنّ منطق المحاسبة والمساءلة يفرض الضغط ليتوسّع التحقيق باتجاه الملفّات الأكبر والأكثر جديّة.

المساهمون