شهدت نهايات القرن العشرين بروز الآثار السلبية للوقود الأحفوري على مسألة التغير المناخي، وبصفة خاصة الاحتباس الحراري، الناتجة بصفة أساسية عن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، علاوة على التداعيات المزلزلة لتذبذب أسعار النفط والغاز على اقتصادات دول كانت تعتمد بصفة أساسية على الموارد التي كانت تدرها تلك المصادر التقليدية للطاقة.
وهكذا بدأ العالم يبحث عن مصادر أخرى بديلة للطاقة، أو ما صار يطلق عليها "الطاقة المتجددة".
ويرى الباحث الإيطالي روبين ديفيد، في تحليل نشره معهد دراسات السياسة الدولية "ISPI" بميلانو مؤخرا، تحت عنوان " التحول الأخضر: النفط، استهلاك أقل في أوروبا وأكثر في آسيا"، أنه على الرغم من أن النفط ما زال يلعب دوراً محورياً في عالمنا المعاصر، فإن هذا الدور يبدو أن مآله التراجع في المستقبل.
ومع أن البيانات الحالية تشير إلى أن الزيت الخام سوف يستمر في كونه المصدر الرئيس للطاقة في العالم أجمع، فإن نسبته تتراجع مقارنة بالمصادر الأخرى.
ووفقاً لبيانات الوكالة الدولية للطاقة، فقد انتقلت نسبة النفط في إمدادات الطاقة العالمية من 46.2% في عام 1973 إلى 31.6% في عام 2018.
وإذا نظرنا إلى البيانات الخاصة بالوقود الأحفوري في مجمله (الفحم والنفط والغاز الطبيعي)، فإن هذه النسبة تقل بدرجة كبيرة؛ من 86.7% في عام 1973 إلى 81.3% في 2018، ما يعني أنه على الرغم من التطور المتلاحق للطاقة المتجددة، فإن إمدادات الطاقة العالمية ما زالت قائمة على الوقود الأحفوري.
تداعيات كورونا
وتابع ديفيد أن ثمة ظاهرتين يبدو أن لهما انعكاسات خاصة على مجريات السوق الحالي وعلى الآفاق المستقبلية للنفط: أزمة تفشي جائحة كورونا والتحول البيئي الذي شرعت فيه بعض الدول.
ففي العام الذي شهد تباطؤا في الأنشطة الاقتصادية على المستوى العالمي بسبب القيود المفروضة لاحتواء تفشي فيروس كورونا، تراجعت بشكل ملحوظ معدلات طلب واستهلاك النفط.
وقد كانت الصدمة المنبثقة عن الجائحة هي الأكبر في تاريخ النفط، حتى إذا قورنت بالأزمة التي اندلعت في عام 1973، عقب قرار منظمة أوبك حظر تصدير النفط إلى الدول الغربية التي ساندت إسرائيل في حرب أكتوبر/تشرين الأول.
ثمة ظاهرتين يبدو أن لهما انعكاسات خاصة على مجريات السوق الحالي وعلى الآفاق المستقبلية للنفط: أزمة تفشي جائحة كورونا والتحول البيئي
وأضاف أنه بينما شهدت أوروبا والولايات المتحدة انهياراً حقيقياً في الطلب على النفط، مع تراجع الاستهلاك بنسبة 13% في أوروبا وبنسبة 11.8% في الولايات المتحدة، فقد كان أثر الجائحة أقل حدة في مناطق أخرى، عدا الصين التي كانت هي القوة الاقتصادية العالمية الكبرى الوحيدة التي سجلت معدل نمو إيجابياً في عام 2020.
وأوضح أنه في ما يتعلق بتطور الأسعار في الأشهر الأولى للجائحة، فإن التراكم السريع لاحتياطي النفط أفضى إلى تشبع في القدرات التخزينية المتاحة، الذي كان قد دفع أيضاً لعدم وجود اتفاق على الإنتاج بين روسيا والسعودية، ما أدى إلى تراجع سريع لأسعار النفط.
في تلك الأشهر، تساءل الكثيرون إذا كان من شأن هذا الانخفاض في أسعار النفط التسبب في الإبطاء من عملية الانتقال إلى الطاقة المتجددة، وإذا كانت الحاجة إلى مواجهة الأزمة المزدوجة الصحية والاقتصادية سوف تؤدي إلى تشتيت انتباه الحكومات حيال المشكلات البيئية والمناخية.
ورأى أن أزمة جائحة كورونا تسببت في انهيار الطلب بشكل غير مسبوق خلال عام 2020، في حين راحت أسواق النفط العالمية تستعيد توازنها شيئاً فشيئاً، إلا أنها قد لا تتمكن أبداً من العودة إلى حالتها الطبيعية.
نحن بحاجة إذاً إلى أن نفهم ما إذا كان تراجع الطلب نتيجة لأزمة كورونا مرتبطاً بديناميات اقتصادية، أم أن بعض العوامل الأخرى مثل تغير العادات وأنماط الحياة سوف تصبح مستدامة (ربما بنسب مختلفة). وسوف يتوقف الكثير، على المدى القصير، إلى جانب ذلك، على تطور خطط التطعيم وإدارة الجائحة.
عمليات التحول البيئي
ولفت الباحث إلى أن ثمة عاملاً آخر سوف يؤثر بقوة على الطلب المستقبلي على النفط، وهو مدى الجدية في تنفيذ عملية التحول البيئي في مناطق مختلفة من العالم. حيث إن مزيداً من الدول، من الصين إلى الاتحاد الأوروبي مروراً باليابان وكوريا الجنوبية، أعلنت عن رغبتها في التوصل إلى الحياد المناخي بحلول منتصف القرن الحالي، أو امتصاص كمية من الكربون على الأقل معادلة للكمية المنبعثة، ومن ثم فإن بلوغ هذا الهدف يتطلب بعض أنماط التحول إلى مصادر أقل تلويثاً للبيئة والتقليل التدريجي من الاعتماد على أنواع الوقود الأحفوري، ومنها النفط.
استعادت أسواق النفط العالمية توازنها شيئاً فشيئاً، إلا أنها قد لا تتمكن أبداً من العودة إلى حالتها الطبيعية
وقال إن الاتحاد الأوروبي تبنى في هذه السنوات تشريعاً متقدماً في مجال الاستدامة البيئية متضمناً في قطاع الطاقة، حيث كان نزع الكربون في قلب تلك الجهود التي عكسها انتهاج مبادرة الاتفاق الأخضر الأوروبي التي تلعب سياساتها الخاصة بالطاقة دوراً أساسياً.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن سياسات الاتحاد الأوروبي الحالية في قطاع الطاقة تهدف إلى تشجيع خفض استهلاك الطاقة وزيادة كفاءتها، وإلى تعظيم كهربة القطاعات التي تستخدم الطاقة على نطاق واسع.
وفي حالة ما إذا كانت الكهربة مستحيلة أو باهظة التكلفة، فإن استراتيجية الاتحاد الأوروبي تسعى إلى تشجيع استخدام مصادر الطاقة المتجددة، أو تلك التي تصدر انبعاثات منخفضة من ثاني أكسيد الكربون.
استراتيجية أوروبية
ومن أجل جعل اقتصاده محايدا مناخيا بحلول عام 2050، فقد حدد الاتحاد الأوروبي لنفسه أهدافا متوسطة المدى لعام 2030، والتي تشمل خفض انبعاثات الاحتباس الحراري بنسبة 55٪ على الأقل عن مستويات عام 1990، وما لا يقل عن 32% من إمدادات الطاقة التي تنتجها الطاقة المتجددة، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة بنسبة 32.5% على الأقل.
وتابع أنه إذا أخذنا في الاعتبار السياسات والاستراتيجيات وخطط العمل المعتمدة، فسوف يتبين لنا أن منظومة الطاقة في الاتحاد الأوروبي من المفترض أن تعتمد في المستقبل على مصادر الطاقة المتجددة في المقام الأول.
ويسير في هذا الاتجاه أيضا القرار الذي اتخذه مؤخرا بنك الاستثمار الأوروبي بإنهاء تمويل مصادر الوقود الأحفوري، بما في ذلك الميثان، اعتبارا من نهاية عام 2021، وتشديده أيضا على التزامه بدعم استثمارات تبلغ حوالي ألف مليار يورو حتى عام 2030 في مبادرات مناخية دعماً لمصادر الطاقة المتجددة.
وأشار إلى أن التقارير التي أعدتها اللجنة الأوروبية توضح لنا أن مزيج الطاقة في أوروبا في عام 2050 سوف تغلب عليه الطاقة المتجددة، وسوف يشهد تنوعاً أكبر لإمدادات الطاقة، واعتماداً أقل على أسواق الوقود الأحفوري، لا سيما النفط والفحم. وإذا لم تحدث خيانة في جهود التحول البيئي المذكورة، فإن تراجع الطلب على النفط في أوروبا قد يصير هيكلياً، ولا يعود أبداً إلى مستويات ما قبل جائحة كورونا.
وأضاف أنه منذ ما يقرب من قرن من الزمان، كان النفاذ إلى النفط والغاز الطبيعي في قلب الاستراتيجية الجيوسياسية للطاقة؛ ولكن مع الطاقة المتجددة وما يرتبط بها من تكنولوجيا موجهة لمزيد من السيطرة على منظومات إمدادات الطاقة، فإن العلاقات بين الدول سوف تتغير، في حين أن الاقتصادات والمجتمعات سوف تخضع لتحولات هيكلية.
وفي إطار هذه العملية لإعادة رسم ملامح سيناريو الطاقة، سيكون المصدر الذي من المحتمل أن يتعرض للأثر الأكبر على المدى الطويل هو النفط، ولكنه سيظل لسنوات عديدة مقبلة في صميم اقتصاداتنا والعلاقات الدولية.
وخلص الباحث الإيطالي إلى أن أزمة كورونا والتحول البيئي عاملان يلعبان دوراً مهماً في سوق النفط. وإذا كانت لجائحة كورونا تداعيات هائلة وفورية على سوق النفط، ولكن لفترة من المتوقع أن تكون محدودة، فإن آثار التحول البيئي ستكون أكثر بطئا وأطول زمناً، وسوف تحول هيكل الطاقة في مناطق بأسرها تحولاً عميقاً. هذا التحول يشهد تفاوتاً من الزاوية الجغرافية، وتتبوأ أوروبا فيه مركزاً طليعياً.
وبحسب تقرير "النفط 2021" الصادر عن الوكالة الدولية للطاقة، والذي يتضمن تحليلات وتكهنات حتى عام 2026، فإنه من المتوقع أن يظل الطلب على النفط في أوروبا منخفضاً على المدى القصير، بينما سيتركز النمو المستقبلي للطلب بشكل ملحوظ في آسيا.
يحدث هذا بينما نشهد صراعاً عالمياً محموماً على تأمين الطاقة (التقليدية)، يتعدد لاعبوه على الجهات الأربع، وتلعب فيه أوروبا وآسيا دوراً رئيسياً، كما يحتل فيه شرق المتوسط مركزاً محورياً بوصفه الوصلة الأهم لخطوط أنابيب الغاز والنفط على المستوى الدولي. فهل ستُكتب كلمة النهاية لهذا الصراع مع اكتمال خطط أوروبا لتحويل اقتصادها إلى الحياد المناخي؟ هذا ما سوف تجيب عنه العقود المقبلة.