جاءني صوته عبر الهاتف، يسألني إن كنت أعرف موقعاً على الإنترنت يمكن من خلاله شراء ساعة "رولكس" مستعملة "بسعر حنيّن"، كما يقول المصريون. فاجأني طلب الصديق الذي أعرفه منذ أكثر من ثلاثة عقود ولم أعرف عنه ولعاً بالساعات القيمة أو اهتماماً بأيّ نوع من المظاهر، ساعةً كانت أم سيارة، أو حتى أيّ نوع من الملابس الفاخرة.
سألت صديقي عما وراء سؤاله، فقال لي إنّه يريد أن "يضع ما لديه من مال سائل في أيّ أصل بدلاً من بقائه على حاله" في حسابه بالبنك. أدهشتني إجابة الزميل الذي لم يكن يوماً مهتماً بأيّ نوع من الاستثمار، خصوصاً في تلك النوعية من الأصول، والتي لا يكاد أغلب المنتمين للطبقة المتوسطة في بلادنا، ومنهم صديقي، يعرفون عنها شيئاً.
وأخبرني صديقٌ آخر بأنّ معرض السيارات الذي كان قد عرض عليه مبلغ 14 ألف دولار عندما أراد أن يبيع سيارته قبل شهرين تقريباً اتصل به ليخبره بأنّهم مستعدون لشراء سيارته المستعملة بمبلغ 21 ألف دولار.
ارتفاع أسعار المنتجات في سوق المقتنيات لم يكن ظاهرة فريدة، إذ شهدت الأسواق الأميركية ارتفاع أسعار أغلب الأصول خلال الفترة الماضية
صديقي أخبرني بأنّه اشترى السيارة بمبلغ 18 ألف دولار قبل عامٍ ونصف، واستمتع بها خلال تلك الفترة، قبل أن يحقق فيها مكاسب ورقية، وإن كانت قابلة للتحقق على أرض الواقع، بنسبة تتجاوز 16%.
تزامنت القصتان مع ما لاحظته في سوق المقتنيات، التي تُعَرَّف بأنّها السوق التي تباع فيها بعض المنتجات بأسعار أعلى كثيراً من سعر بيعها أول مرة بسبب ندرتها أو إقبال المشترين عليها، من تزايد عمليات البيع والشراء لتلك المنتجات بصورة مستمرة.
وبدأت ارتفاعات الأسعار في تلك السوق العام الماضي، لكنّها تسارعت خلال الفترة الأخيرة، حين بدأ كلّ من بحوزته ألف دولار، أو أكثر، في البحث عن مكان يضع فيه ما لديه من سيولة.
ولم يشمل ذلك أسعار الساعات والسيارات المستعملة فقط، وإنّما امتد ليشمل الكثير من المنتجات الأخرى، بما في ذلك الأحذية الرياضية وزجاجات النبيذ، وغيرها.
ارتفاع أسعار المنتجات في سوق المقتنيات لم يكن ظاهرة فريدة، إذ شهدت الأسواق الأميركية ارتفاع أسعار أغلب الأصول خلال الفترة الماضية، في ما أطلق عليه "رالي كلّ شيء".
والأسبوع الماضي، سجل سعر أونصة الذهب أعلى مستوى له في 2021، حين فضل كثير من المستثمرين المتحفظين الاختباء في المعدن النفيس لحين انتهاء هذه الفترة، أو لحين إعلان بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) تغيير سياساته المفضِلة لمعدلات الفائدة المنخفضة.
وفي حين يزداد بريق الذهب عادة عند معدلات الفائدة المنخفضة، تشير التحليلات الفنية للمعدن الجاذب دائماً للخائفين من ارتفاع معدل التضخم إلى ارتفاع المتوسط المتحرك لسعره لعشرة أيام فوق نظيره لمائتي يوم، وهو ما يعتبره المتعاملون علامة على اتجاه صعودي للسعر.
وفي الوقت الذي تخطف فيه أسعار الأسهم الهزلية، أو ما يطلق عليه Meme stocks، الأبصار بأحجام تداول مهولة وارتفاعات ضخمة في الأسعار، اقتربت مؤشرات الأسهم الرئيسية خلال الأيام الأخيرة من أعلى مستوياتها على الإطلاق، مستفيدةً من بيانات وزارة العمل، التي أظهرت إضافة الشركات الأميركية 559 ألف وظيفة جديدة خلال مايو/ أيار المنصرم، ودعمت وجهة نظر بنك الاحتياط الفيدرالي المؤيدة لتأجيل رفع معدلات الفائدة وتأخير إيقاف شراء السندات من السوق الثانوية.
اقتربت مؤشرات الأسهم الرئيسية خلال الأيام الأخيرة من أعلى مستوياتها على الإطلاق، مستفيدةً من بيانات وزارة العمل، التي أظهرت إضافة الشركات الأميركية 559 ألف وظيفة جديدة خلال مايو/ أيار
والشهر الماضي، سجلت أسعار المنازل الأميركية مستويات قياسية جديدة للشهر الرابع على التوالي، إذ هرع المستثمرون لشرائها كمخزن للقيمة، تحسباً لتضخم ينتظره الجميع، ولا يبدو أنّ البنك الفيدرالي يرغب في منعه حتى هذه اللحظة.
وأظهرت بيانات حديثة ارتفاع متوسط سعر المنزل الأميركي، الشهر الماضي، ليسجل 380 ألف دولار، مرتفعاً بنسبة 15.2% مقارنةً بالشهر نفسه من العام الماضي، ليكون هذا الشهر العاشر على التوالي الذي يشهد ارتفاعاً في متوسط السعر بنسبة تتجاوز 10%.
ومن جهة أخرى، لا تخفى على أحد نسب الارتفاع الكبيرة التي حققتها العملات المشفرة خلال الشهور العشرين الأخيرة، والتي تضعها على رأس قائمة الرابحين في هذا السباق المحموم، رغم ما شهده بعضها من تراجع في السعر خلال الأسابيع الأخيرة.
ويأتي كلّ ذلك متوافقاً مع ما ذكره البنك الفيدرالي في كتابه البيج Beige Book، الذي صدر في واشنطن الأسبوع الماضي، إذ أكد البنك أنّ الشركات الأميركية ستواجه مشكلة ارتفاع تكاليف الإنتاج لديها، بفعل ارتفاع أسعار أغلب السلع والمنتجات الوسيطة وأجور العمال، خلال الفترة المقبلة.
بدورها، لم تنتظر جانيت يالين، وزيرة الخزانة الأميركية والرئيسة السابقة للبنك الفيدرالي، عودتها لبلادها بعد انتهاء زيارتها للندن لحضور اجتماعات مجموعة الدول السبع الكبرى، لتعلن انتظارها ارتفاع معدل التضخم ومعدلات الفائدة في الولايات المتحدة، مؤكدةً أن ذلك سيكون في صالح الاقتصاد الأميركي.
وتتضاءل أهمية كلّ تلك الارتفاعات في الأسعار مع مشكلة الشركات وأجور العمال، وذلك بافتراض أنّ تلك الشركات تستطيع الوصول إلى ما تحتاج إليه من عمالة.
الشركات الأميركية تدفع لعمالها أجوراً تزيد بنسبة 4% عما كانت تدفعه في 2020، وإنّ هؤلاء العمال يمكنهم في المتوسط الحصول على 13% إضافية إذا انتقلوا لشركاتٍ أخرى
ومع تخوف العمال الأميركيين من النزول للعمل خوفاً من التعرض للإصابة بالفيروس، أو تباطؤ عودتهم لأعمالهم بعد إعادة الفتح بسبب الإعانات السخية، يقول "بنك أوف أميركا" إنّ الشركات الأميركية تدفع لعمالها أجوراً تزيد بنسبة 4% عما كانت تدفعه خلال العام الماضي، وإنّ هؤلاء العمال يمكنهم في المتوسط الحصول على 13% إضافية إذا انتقلوا لشركاتٍ أخرى.
يستمع المرء إلى كلّ تلك التحليلات ويرى هذه النسب من الارتفاعات، وانعكاساتها على أجور العمال، فلا يملك إلّا أنّ يضرب كفاً بكف حسرةً على أوضاع العمال في أغلب البلدان العربية، إذ ترتفع معدلات التضخم بصورة أكبر بينما تغيب الاتحادات والنقابات الفاعلة التي يمكنها المطالبة بزيادة الأجور الهزيلة أصلاً، وتقل المرونة التي تسمح لهم بالتنقل بين الوظائف المختلفة، فتزداد أوضاع أغلبهم سوءاً وتقل مستويات معيشتهم، الأمر الذي ينعكس بالسلب على إنتاجيتهم، لنبقى في تلك الدائرة المغلقة، ولا يعلم أحد إلى متى!