تدفع الضغوط المعيشية المتواصلة في تونس الكثير من الأسر إلى التخلي قسراً عن الادخار الذي كان يمثل أحد أهم عوامل الأمان المالي لها، سواء عبر الإيداعات المالية في البنوك ومؤسسة البريد أو التحوط بالمعادن الثمينة وغيرها من الأصول.
وكشفت بيانات صادرة عن البنك المركزي التونسي اطلعت عليها "العربي الجديد" أن قيمة الادخار العائلي في البنوك لم تتجاوز خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي 1.4 مليار دينار (ما يعادل 450 مليون دولار).
كما لم يزد الادخار في مؤسسة البريد طيلة ذات الفترة عن 500 مليون دينار. وسجل إجمالي الادخار في البلاد 29.4 مليار دينار، مقابل 27.9 مليار دينار في نهاية عام 2022.
وقال المحلل المالي خالد النوري لـ"العربي الجديد" إن النمو الضعيف للادخار البريدي مؤشر مهم على دخول آلية التوفير الأسري مرحلة الركود، مؤكدا أن الأسر الضعيفة (الفقيرة) ومتوسطة الدخل لها تقاليد تاريخية في الادخار لدى مكاتب البريد عبر شبكة مكاتبه الممتدة في كامل مدن البلاد.
وأشار النوري إلى أن الأسر التونسية بمختلف طبقاتها الاجتماعية تعتبر التوفير عبر الادخار جزءا من أمانها المالي الذي لا يقل أهمية عن الأمان الوظيفي والغذائي.
وأضاف: "لم تعد لشريحة واسعة من التونسيين تزيد عن 3 ملايين أسرة القدرة على الادخار أو التحوط بالمعادن النفيسة، بسبب فقدان هذه الطبقة لتوازناتها المالية ودخولها في وضع الاستدانة المفرطة لتلبية احتياجاتها المعيشية اليومية".
وبحسب المحلل المالي، فإن "نسبة النمو الضعيفة التي حققها الادخار البريدي منذ بداية 2023 وإلى غاية أغسطس/آب من نفس العام، دليل قاطع على الإنهاك المالي الذي تعيشه الأسر"، مشيرا إلى أن خدمة التوفير البريدي تستوعب العدد الأكبر من المودعين في تونس. وأكد أن "أرقام الادخار البريدي تكشف حجم الأزمة المالية للأسر".
ويتفوق البريد الذي يوفر خدمة الادخار منذ 67 عاماً على الجهاز المصرفي، حيث تبلغ عدد حسابات الادخار الخاصة لدى البريد أكثر من 4.1 ملايين حساب مقابل 1.8 مليون حساب لدى المصارف، وفق أحدث البيانات الرسمية.
وتقوم تركيبة الادخار في تونس على ثلاثة مكونات، أولها ادخار الأفراد والعائلات، الذي يستخدم في الغالب في اقتناء العقارات السكنية وتجهيزها، ويشكل نحو ربع الادخار الوطني، فيما يتمثل الصنف الثاني في فوائض ميزانيات المنشآت الحكومية، بينما يتعلق الصنف الثالث بادخار المؤسسات.
وقال الباحث في علم الاجتماع ماهر حنين، إن الأمان المالي عبر الادخار يدعم الاستقرار الأسري والاجتماعي ويحد من الضغوط والتوترات التي قد تنتج عن الحاجة إلى المال في الظروف الطارئة، على غرار المرض أو حوادث الحياة.
وأكد حنين في تصريح لـ"العربي الجديد" أن النمو الاقتصادي وزيادة المداخيل عادة ما تحقق الأمان المالي للأفراد والعائلات وهي أسباب غير متوفرة في تونس حالياً، ما تسبب في انهيار مصادر الإسناد النقدية التي كان يتحوّط بها المواطنون.
ووفق حنين، فإن ضغوط الاستهلاك رفعت من حجم النفقات الضرورية للعائلات، وذلك على حساب التوفير أو الاستثمار الأسري الذي كانت العائلات تنجح سابقاً في تحقيقه بإمكانيات محدودة.
وأضاف أن "تداعيات الضغوط الاستهلاكية لم تقتصر على انحسار عادات الادخار فحسب، وإنما حولت السلوكيات المالية للأسر نحو الاقتراض المفرط لتلبية الاحتياجات المعيشية"، مشيرا إلى تأثير البطالة المطولة للأبناء على قدرة الأسر، التي تضطر إلى إعانة الأفراد منعدمي الدخل. ولفت إلى أن عدم الاندماج السريع للأبناء في سوق العمل يحمّل أرباب الأسر أعباء إضافية.
وخلال السنوات الأخيرة، زحف الفقر إلى الطبقة الوسطى التي تمثل 60% من تركيبة المجتمع التونسي بشكل واضح، بسبب ارتفاع مستويات التضخم وارتفاع إنفاق التونسيين أكثر من قيمة رواتبهم التي لا يتجاوز متوسطها 450 دولاراً شهرياً.
وكشف أحدث مسح إحصائي حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر الصادر عن معهد الإحصاء الحكومي، أن رقعة الفقر في تونس توسعت إلى 16.6% في 2021، مع انزلاق فئات من الطبقة المتوسطة تحت وطأة الغلاء المتزايد وتراجع الدخول، وذلك مقارنة بـ 15.2% عام 2015، فيما حافظت نسبة الفقر المدقع على استقرارها في حدود 2.9%.
وأشار المسح إلى أن متوسط الإنفاق السنوي للفرد زاد بنسبة 41.3% خلال الفترة ذاتها ليبلغ 5468 ديناراً عام 2021 مقابل 3871 ديناراً في 2015. وفي الأثناء، فقد الدينار التونسي أكثر من 52% من قيمته خلال الفترة الممتدة ما بين 2011 و2022، وفق بيانات للمرصد التونسي للاقتصاد.
ويحمّل خبراء اقتصاد، المصارف التجارية، جزءاً من تراجع الادخار العائلي، معتبرين أنها لم توفّق بالقدر الكافي في التسويق لأغلب الخدمات الادخارية المستحدثة، مما ولّد عزوفاً لدى عملائها وتأمين أموالهم في حسابات تدرّ عليهم بعض الأرباح. وتدفع المصارف نسبة عائد على حسابات الادخار في حدود 7% مقابل نسبة تضخم مسجلة بـ 8.3% خلال شهر نوفمبر الماضي.
وتسببت المصاعب الاقتصادية التي يعيش التونسيون على وقعها طيلة السنوات الأخيرة في لجوء الكثيرين إلى الاستدانة من البنوك، عبر الحصول على قروض استهلاك متفاوتة القيمة لتسديد مصاريفهم اليومية وإيجاد سيولة مالية للعديد من النفقات.
وفي آخر تقرير نشره المعهد التونسي للاستهلاك، فإن مصادر ديون الأسر التونسية متأتية أساسا من البنوك بنسبة 57%، كما تخصص الأسر الحاصلة على قروض مصرفية حوالي 43% من مداخيلها لدفع ديونها، وترتفع هذه النسبة إلى 60% في بعض الأحيان للعديد من العائلات.
وقال الخبير في السوق المالية معز حديدان، إن الادخار الذي يوفر للمودعين الأمان المالي مرتبط بالرخاء الاقتصادي، مشيراً إلى صغار المودعين من الموظفين أو صغار الفلاحين والحرفيين.
وأفاد حديدان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، بأن هذه الشرائح تعاني من أزمات أثرت على قدرتهم على توفير السيولة نتيجة ارتفاع كلفة المعيشة وأزمة الجفاف التي أثرت بشكل كبير على ما يزيد عن نصف مليون تونسي يعملون في القطاع الزراعي كانوا يصنفون من بين صغار المدخرين.
وأضاف أن نسبة الفائدة على الادخار العائلي تظل دون نسبة التضخم الذي صعد إلى مستويات قياسية، ما يؤدي أيضاً إلى عزوف الكثيرين عن الادخار المصرفي، فضلا عن عدم دراية كافية لدى أغلب التونسيين بأشكال الادخار المجزية، على غرار شراء الأسهم في البورصة.