تجبر الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، حكومة الاحتلال الإسرائيلي، على تقليص الإنفاق على العديد من البنود وتوجيهها إلى جبهات القتال التي باتت تستنزف مالية الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويتوقع أن يستمر الاستنزاف العام المقبل، إذ تُقدر جهات إسرائيلية استحواذ الحرب على نحو ربع الميزانية بما يعادل 150 مليار شيكل (حوالي 38 مليار دولار).
وستكون ميزانية 2024 الأعلى في تاريخ إسرائيل، بأكثر من 600 مليار شيكل (حوالي 160.8 مليار دولار)، إذ يجري التخطيط لتعديلها. وذلك في وقت من المتوقع أن تنخفض الإيرادات الضريبية بأكثر من 10%، بسبب الشلل الذي يصيب الكثير من القطاعات الإنتاجية والخدمية بسبب تجنيد مئات الآلاف من جنود الاحتياط، واستمرار ضربات المقاومة الفلسطينية التي أدت إلى توقف الإنتاج في المناطق الواقعة قرب قطاع غزة (جنوب فلسطين المحتلة) والحدود اللبنانية (شمال) بشكل خاص، وانخفاضه في مناطق أخرى، فضلا عن تراجع الاستهلاك بشكل كبير، وارتفاع البطالة التي تقلص عائدات ضريبة الدخل.
وكانت ميزانية 2024 تقدر بنحو 514 مليار شيكل لدى إقرارها في مايو/أيار الماضي، بينما بلغت ميزانية العام الجاري 484 مليار شيكل. وأصبحت الحرب على غزة أكثر تكلفة بالنسبة إلى إسرائيل مما كان متوقعاً في البداية، حيث يزداد تأثيرها سلباً على الأنشطة الاقتصادية المختلفة والمالية العامة. ويقدر وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، النفقات اليومية بنحو مليار شيكل (260 مليون دولار).
وتضغط هذه النفقات على بنود أخرى في الميزانية، إذ من المقترح إلغاء أجزاء كاملة منها لتدبير الأموال اللازمة لتمويل الجيش وقوات الأمن، وتعويضات الشركات والأفراد المتضررين من الحرب، ودفع مبالغ كبيرة للفنادق التي جرى تسكين المستوطنين الذين جرى إجلاؤهم من المناطق القريبة من غزة وحدود لبنان والتي يتوقع أن تمتد إقامتهم فيها لفترة طويلة.
ووفقاً لصحيفة يديعوت أحرونوت، أمس الأحد، فإن فاتورة الحرب التي تشمل الإنفاق على تعبئة جنود الاحتياط والعمليات العسكرية وإعادة إعمار المستوطنات، ودعم الاقتصاد ومساعدة المواطنين، ستصل إلى أكثر من 150 مليار شيكل في 2024، وذلك بخلاف كلفة الحرب خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الجاري 2023.
إلغاء وزارات وخفض مخصصات أخرى
وفي مقابل زيادة الإنفاق بشكل كبير على ميزانيات الجيش والشرطة والصحة وبنود التعويضات، فإن بنوداً أخرى سيجري خفضها في ميزانية العام المقبل، حيث أوصت شعبة الموازنة في وزارة المالية بالإغلاق الكامل لست وزارات، على رأسها الشتات، القدس، التراث، الاستيطان، المساواة الاجتماعية، وزارة التعاون الإقليمي، التي أشارت الشعبة إلى أنه "ليس هناك حاجة لها الآن".
كما أوصت وزارة المالية بإجراء خفض كبير في مخصصات وزارة السياحة، باعتبار أنه لن تكون هناك سياحة لفترة طويلة، ووزارتي الاستخبارات وجودة البيئة. بالإضافة إلى ذلك، فإن هناك توصية بخفض مخصصات أحزاب الائتلاف الحكومي، وهو ما يثير جدلاً سياسياً واسعاً لدى الحكومة. وكان قانون الميزانية الذي جرى إقراره قبل 6 أشهر بمنح الائتلاف نحو 14 مليار شيكل.
وتأتي التعديلات المقترحة لميزانية 2024، في الوقت الذي أعطى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الثلاثاء الماضي، موافقته المبدئية على تغييرات في ميزانية العام الجاري أيضا. وجوهر هذا التعديل يتمثل في طرح زيادة على موازنة الدولة لعام 2023 بنحو 31 مليار شيكل (8.3 مليارات دولار)، وخفض إنفاق بعض البنود الثانوية بمقدار 4 مليارات شيكل (1.1 مليار دولار).
وبينما تؤدي الحرب إلى إنفاق عشرات مليارات الدولارات الإضافية من الميزانية، فقد وجّه 300 خبير اقتصادي إسرائيلي رسالة مفتوحة إلى حكومة نتنياهو في نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، طالبوه فيها باتخاذ تدابير عاجلة لدعم الاقتصاد، متّهمين إياه بأنّه "لا يفهم حجم الأزمة".
وسيكون النمو قريباً من الصفر في العام المقبل، وفق "يديعوت أحرونوت"، بينما هناك توقعات أكثر تشاؤماً بأن يسجل مستويات سلبية تتراوح بين 1.5% و2%، بينما كانت التقديرات السابقة تشير إلى نمو إيجابي بنسبة 2%.
ونهاية الأسبوع الماضي، جرى الكشف عن الأرقام الرسمية لتوقعات وزارة المالية الإسرائيلية بأن ينتهي عام 2023 بنمو بنسبة 2%، مقارنة بتوقعات سابقة بنمو قدره 3.4%.
ووفق توقعات كبير الاقتصاديين في الوزارة، شموئيل أبرامسون، والتي نشرها موقع "ذا ماركر" الإسرائيلي أخيراً، فإن الربع الأخير من العام الجاري سيعكس تراجعاً حاداً في النمو.
ووفق بنك إسرائيل المركزي، فإن "الحرب الحالية تتطلب إلى جانب الإنفاق العسكري، مساعدة السكان الذين تم إجلاؤهم وأسر المصابين والمفقودين، وتكثيف أنظمة الطوارئ والإنقاذ، وتعزيز نظام الخدمات العامة من أجل توفير الاستجابة لجميع السكان".
ويطالب البنك بضرورة توفير سيولة أكبر لتلبية النفقات الناتجة عن الحرب على غزة، وسط توقعاته بانخفاض الإيرادات الضريبية خلال العام الجاري، بسبب الآثار السلبية للحرب على النشاط الاقتصادي.
ويشير "المركزي" الإسرائيلي إلى أن التكلفة التي يتكبدها الاقتصاد، تبلغ 2.3 مليار شيكل (600 مليون دولار) أسبوعيا، لافتا إلى أن هذه التكاليف ناجمة عن إغلاق العديد من المدارس في أنحاء البلاد، وإجلاء نحو 144 ألف عامل من المناطق القريبة من غزة والحدود اللبنانية، إضافة إلى استدعاء جنود الاحتياط للخدمة.
كذلك انخفضت الاحتياطيات الأجنبية لإسرائيل بأكثر من 7 مليارات دولار في أكتوبر/تشرين الأول وحده، حيث سعى البنك المركزي للدفاع عن الشيكل بعد بدء العدوان على غزة. وبعد أيام من ادلاع الحرب أعلن بنك إسرائيل عن حزمة بقيمة 45 مليار دولار لدعم الشيكل، حيث تعهد ببيع ما يصل إلى 30 مليار دولار من احتياطيه من العملات الأجنبية، وتوفير ما يصل إلى 15 مليار دولار من خلال عقود المقايضة.
وكانت التقديرات في السابق تذهب إلى بلوغ نسبة العجز في ميزانية 2024 نحو 5%، لكن هذه النسبة مرشحة للارتفاع كثيراً، وفق تقرير "يديعوت أحرونوت"، في ظل الأضرار التي تخلفها الحرب المستمرة منذ 45 يوماً، والتي يتوقع ترحيل آثارها إلى العام المقبل، حتى لو توقف الصراع.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحده، سجلت إسرائيل عجزاً في الميزانية قدره 22.9 مليار شيكل (حوالي 6 مليارات دولار) وفق بيانات صادرة عن وزارة المالية في وقت سابق من الشهر الجاري، مشيرة إلى أن الإيرادات انخفضت بنسبة 15.2%، بسبب التأجيلات الضريبية وانخفاض دخل الضمان الاجتماعي.
ارتفاع كلفة الديون
ومن شأن العجز المتزايد وارتفاع الإنفاق على الحرب وتعويضات المتضررين، أن يدفع إسرائيل إلى المزيد من الاقتراض بفائدة مرتفعة، ما يؤثر بشكل سلبي على التصنيف الائتماني الذي يعد سيئاً بالأساس، ويزيد من أعباء الديون، ليس فقط على دولة الاحتلال وإنما الشركات والأفراد أيضا.
وتدفع إسرائيل فائدة بنسبة تتراوح بين 6.25% و6.5% على السندات التي جرى إصدارها هذا الشهر والمستحقة السداد خلال 4 و8 سنوات، وهذه النسبة أعلى بكثير من عوائد سندات الخزانة الأميركية القياسية، التي تراوحت بين 4.5 و4.7%، وفق تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية.
وكانت دولة الاحتلال قد أصدرت سندات دولارية في يناير/كانون الثاني 2033 بعائدات بلغت 4.5%، ما يزيد قليلا على عوائد سندات الخزانة الأميركية البلغة 3.6% آنذاك.
ويعني ارتفاع العائد على السندات ارتفاع كلفة الدين الحكومي الذي تحتاجه إسرائيل بشدة في الوقت الراهن، ولا سيما أن المساعدات الأميركية الموعودة لتل أبيب والبالغة 14.3 مليار دولار قد تتأخر بسبب الخلافات داخل الكونغرس الأميركي.
ووفق تقرير لبنك إسرائيل، نُشر على موقعه الإلكتروني، السبت، فإن "احتمال توسع الحرب لا يزال كبيراً، وسيؤدي مثل هذا التوسع في حال حدوثه إلى إلحاق المزيد من الضرر بالنشاط الاقتصادي ويتطلب موارد إضافية في الميزانية".
في الأثناء، فقدت إسرائيل نحو 7 مليارات دولار من احتياطي النقد الأجنبي لديها الشهر الماضي فقط. وبحسب بيانات البنك المركزي بلغ احتياطي إسرائيل بنهاية ذلك الشهر 191 مليار دولار، مقابل ما يزيد قليلاً عن 198 مليار دولار بنهاية سبتمبر/أيلول.
وعلى الرغم من أن المجتمع والاقتصاد الإسرائيلي معتادان على الأزمات، إلا أن "كل النزاعات الإسرائيلية الفلسطينية في السنوات الأخيرة كانت محدودة نسبياً مقارنة بالنزاع الحالي"، وفق ما نقلت وكالة فرانس برس، أمس، عن أستاذ الاقتصاد في جامعة حيفا بنيامين بنتال، مشيرا إلى أن بعض القطاعات تعاني أكثر من غيرها.
وفي مؤشر على القلق المحيط بالأجواء، انخفض حجم التعاملات عبر بطاقات الائتمان بنسبة 10% في البلاد بعيد وقوع هجوم حماس واندلاع الحرب، وبـ20% بعد بدء العمليات العسكرية البرية في غزة في 27 أكتوبر/تشرين الأول.
وبينما ينظر باهتمام بالغ إلى قطاع التكنولوجيا الذي يمثل 18% من الناتج المحلّي الإجمالي، فإن استطلاع أُجري في نهاية الشهر الماضي بين 500 شركة في القطاع، أفاد 70% منها بأنّه جرى إلغاء أو تأجيل طلبيات ومشاريع مهمّة منذ بداية الحرب.