يهدد الدولار القوي بإشعال أزمة ديون سيادية عالمية، إذ يتزامن ارتفاع العملة الأميركية الجنوني مع أزمات التضخم وزيادة كلف واردات الغذاء والوقود، وتداعيات الحرب الأوكرانية، وتبعات العقوبات الغربية على النمو الاقتصادي.
وبالتالي ستضغط هذه الأوضاع الاقتصادية على ميزانيات الحكومات العالمية وتدفعها لزيادة الإنفاق الحكومي، حتى تتفادى حدوث اضطرابات معيشية واجتماعية تهدد الاستقرار السياسي، وفق مراقبين.
وتشير توقعات شركة إدارة الأصول البريطانية "جانوس هندرسون"، إلى أنّ الدين السيادي العالمي سيرتفع بنهاية العام الجاري بنسبة 9.5% ليصل إلى 71.6 تريليون دولار. وبلغ حجم الدين السيادي 65.4 تريليون دولار في نهاية عام 2021.
تساؤلات حول ما إذا كانت الحكومات قادرة على تسديد كلف الأقساط حسب الجداول المتفق عليها وسط الأزمات العديدة وتراجع أسعار عملاتها
من جانبها، تقدّر وكالة "ستاندرد آند بورز غلوبال" العالمية للتصنيف الائتماني، ارتفاع حجم الدين السيادي العالمي بنهاية العام الجاري بقيمة 10.4 تريليونات دولار، وبارتفاع نسبته أكثر من 33% عن عام 2019.
لكن ما يقلق المستثمرين في السندات السيادية ليس حجم الدين في حد ذاته، بل ارتفاع خدمة الدين العالمي بمعدلات كبيرة بلغت حسب وكالة ستاندرد آند بورز غلوبال نسبة 14.5%، لترتفع الخدمة إلى نحو 1.16 تريليون دولار.
وهنالك تساؤل حول ما إذا كانت الحكومات قادرة على تسديد كلف الأقساط حسب الجداول المالية المتفق عليها وسط الأزمات العديدة وتراجع أسعار عملاتها أمام الدولار.
والدين السيادي يعني في المصطلح الاقتصادي استدانة الحكومات لتمويل الإنفاق بالميزانية عبر إصدار سندات أو عبر الاستدانة المباشرة من البنوك والمؤسسات الدولية.
واستدانت حكومات العالم بكثافة في عامي جائحة كورونا، أي خلال عامي 2020 و2021، لتلافي مخاطر الجائحة، كما أرجأت تسديد وخدمة أقساط جلّ ديونها المتراكمة على أمل أن يعود الاقتصاد العالمي للنمو في العام الجاري، لكنّ ما حدث أنّها فوجئت بكارثة أخرى، وهي غزو روسيا لأوكرانيا وتداعياته الخطرة على الاقتصاد العالمي.
ويرى تحليل في صحيفة فايننشال تايمز أنّ الدولار القوي يخلق إشكالات مالية ليس فقط للاقتصادات الناشئة والفقيرة فقط، ولكن كذلك للاقتصادات الصناعية المتقدمة.
ففي أوروبا تراجع سعر صرف اليورو والجنيه الإسترليني مقابل الدولار. واقترب اليورو من سعر دولار واحد، وبالتالي رفع من كلف خدمة الديون الدولارية لبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، كما زاد من كلف واردات السلع التي يجري شراؤها بالدولار، مثل الوقود وبعض المعادن. وضاعفت قوة الدولار كذلك في ذات الوقت من خدمة ديون "اليورو بوندز" التي استدينت بالدولار.
فايننشال تايمز: الدولار القوي يخلق إشكالات مالية ليس فقط للاقتصادات الناشئة والفقيرة فقط، ولكن كذلك للاقتصادات الصناعية المتقدمة
ومعروف أنّ دول الاتحاد الأوروبي تعيش فترة من الاختناق المالي بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، كما أن بريطانيا لا تزال تعاني من تداعيات "بريكست".
على صعيد الاقتصادات الناشئة والفقيرة تواجه دول عديدة أزمة انهيار عملاتها مقابل الدولار في الوقت الذي تهرب فيه الاستثمارات والأموال الساخنة من أسواقها، كما تتفادى البنوك وصناديق الاستثمار الأصول الخطرة، وبالتالي باتت غير راغبة في شراء سنداتها. ويقدر صندوق النقد الدولي أنّ نحو 60% من الدول ذات الدخل المتوسط والفقيرة في العالم، تواجه أزمة ديون في الوقت الراهن.
ولا يستبعد خبراء في التمويل أن تعجز عدة دول بأفريقيا وأميركا اللاتينية عن تسديد ديونها خلال العام الجاري. وربما تكون سريلانكا أكبر مثال على أزمة ديون الاقتصادات الناشئة. وربما لن تكون الدولة الآسيوية الأخيرة وسنشهد أزمات مماثلة.
وترى "جانوس هندرسون" أنّ ارتفاع نسبة الفائدة المصرفية ربما يخلق أزمة حتى للولايات المتحدة نفسها، إذ إنه يضاعف كلف خدمة الديون الأميركية التي ارتفعت في العام الماضي إلى نحو 550 مليار دولار، حسب بيانات مكتب الميزانية بالكونغرس الأميركي.
ربما ستتضاعف الفائدة المرتفعة خدمة الدين الأميركي إلى أكثر من تريليون دولار سنوياً إذا واصل الفيدرالي زيادة السعر لمكافحة التضخم
وربما ستتضاعف الفائدة المرتفعة خدمة الدين الأميركي إلى أكثر من تريليون دولار سنوياً إذا واصل مجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" الزيادات التي وعد بها في معدل الفائدة لمكافحة التضخم.
ويقول خبراء إنّ الدولار القوي ليس في مصلحة أحد في الوقت الراهن، إذ إنّه على الرغم من أنّه يرفع من حجم الواردات وعلى الرغم من أنّ الدولار القوي يقلل من حجم التضخم، لكنّه في المقابل يخلق أزمات على صعيد خدمة الدين السيادي وللبنوك والشركات الأميركية.
ويشير تحليل في نشرة "إنفستوبيديا" إلى أنّ الدولار القوي يضعف الاقتصادات الناشئة، لأنها تعتمد في النمو الاقتصادي على الاستثمارات الأجنبية ويرفع من حجم التخلف عن سداد الديون.
في هذا الصدد تقول شركة "نيوبيرغر بيرمان" الأميركية، إنّ نسبة التخلف عن السداد في العالم ارتفعت بنسبة 7.8% في منتصف عام 2020، حينما ارتفعت العملة الأميركية وواجه العالم أزمة نقص مريع في الدولارات. وبالتالي لا يستبعد محللون أن يتكرر ارتفاع حجم التخلف عن سداد الديون خلال العام الجاري.
ويلاحظ أنّ الصين التي كانت في الغالب تدعم النمو العالمي في السابق تواجه أزمة مالية بسبب تفجر جائحة كورونا، وما تلاها من عمليات إغلاق في أهم مدنها التجارية، شنغهاي.
ويقدر تقرير لقناة سي إن بي سي الأميركية أن تواجه الحكومة الصينية نقصاً متزايداً في السيولة إثر انخفاض الإيرادات الحكومية، مما يساهم في توسع الفجوة التمويلية للبلاد لما يقرب من تريليون دولار، تتطلب زيادة في ديون وإيرادات الدولة لسدها.