لا يمكن أحداً من الجاليات العربية الكبيرة المقيمة في تركيا، وفي مقدمتها الجالية السورية الموجودة منذ السنوات الأولى لثورات الربيع العربي، إنكار فضل الشعب والحكومة التركيين في استضافتها ومعاملتها كجزء لا يتجزأ من مكونات الشعب التركي، ولا سيما في مجال الخدمات الأساسية، والصحية على وجه التحديد، ولا يمكن أيضاً إنكار الضغط الكبير وبعض الإرباك الذي سببه هذا الوجود لمرافق الدولة، بل ولبعض مؤسساتها، وهو الأمر الذي أدى إلى تشريع قوانين جديدة والتغاضي عن تنفيذ بعض القوانين القائمة.
كانت المقدمة السابقة ضرورية للاعتراف بالجميل والفضل للشعب والحكومة التركيين، اللذين كانا دائماً في مقدمة المدافعين عن هذا الوجود، رغم أصوات المعارضة التي دائماً ما تلوّح بورقة العرب والسوريين على وجه الخصوص في وجه النظام، في محاولة بائسة للحصول على بعض أصوات الناخبين في الانتخابات، ولو على أشلاء المدنية وحقوق الإنسان المزعومة من قبل الليبراليين الأتراك، الذين يدللون على ابتعادهم عن الشارع وانصراف الشارع عنهم من خلال التركيز على قضية السوريين، مع إهمال مفضوح للقضايا الحياتية للمواطن.
وخلال الشهر الماضي، حدثت سلسلة من التصعيدات المعتادة ضد السوريين في كل انتخابات تركية، حيث تعلو الأصوات المنادية بإعادتهم إلى بلدهم، مع إشاعة مجموعة من الأكاذيب والافتراءات على الأشقاء السوريين، مثل دخولهم الجامعات دون اختبارات قبول، أو تفضيلهم في المصالح العامة على أقرانهم الأتراك، أو حصولهم على مساعدات مالية من الحكومة، إلى غير ذلك من الأكاذيب التي تملأ مواقع التواصل وصحف المعارضة.
وبدا من خلال تلاحق الأحداث أنّ هناك خطة ممنهجة ومتقنة يقف وراءها البعض، استغلالاً رخيصاً لحرائق الغابات الواسعة والمدمرة في الكثير من الولايات التركية التي أعقبتها مجموعة من الفيضانات المدمرة في ولايات أخرى، بالإضافة إلى التراجع المستمر لقيمة العملة التركية، وهو ما سبّب موجة كبيرة من التضخم ساهمت فيه بنسبة لا يستهان بها تداعيات فيروس كورونا وأزمة ارتفاع أسعار الغذاء في العالم، لا الأداء الاقتصادي لحكومة الرئيس رجب طيب أردوغان.
وقد سمعنا رئيس بلدية ولاية بولو، وهو يزيد أسعار الكهرباء على الأجانب لإخراجهم من ولايته، وتقليد بعض رؤساء البلديات له بإعلان نياتهم رفع أسعار الكهرباء والمياه على الأجانب المقيمين في ولاياتهم.
وبلغ الحد في الترويج الانتخابي ضد السوريين على المدى البعيد، إذ كان حاضراً في جولات ميدانية لبعض رؤساء الأحزاب المشهورين، ولكن المفاجأة أن المواطنين الأتراك البسطاء بدأوا يتصدون لهذه الموجة من خلال مواجهات كلامية حادة ضد من يتفوه بأي كلمة ضد الأجانب والسوريين، وبدأ البسطاء الانتقال من مشاعر الأخوة والعاطفة والتضامن الإنساني، إلى لغة الاقتصاد والأرقام، موضحين أن أعمالهم مهددة بالتوقف التام في حال غياب هؤلاء السوريين، الذين باتوا يشكلون ضرورة للاقتصاد التركي.
وفي هذا الإطار، كشفت دراسة نشرها "مركز الحوار السوري" عن التأثير الكبير للعمال السوريين بسوق العمل التركي، والإسهامات الكبيرة التي قدموها خلال السنوات الماضية. إذ تشير الدراسة إلى أن حركة لجوء السوريين إلى تركيا أسهمت في انتقال شريحة واسعة من اليد العاملة السورية إلى سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي، حتى أضحت اليد العاملة السورية تشكل 2.9% من إجمالي حجم العمالة في سوق العمل، وفقاً لإحصائيات الحكومة التركية.
وتنوع تركز الأيدي العاملة السورية في العديد من القطاعات، خاصة الورش الصناعية والملابس والأحذية التي استوعبت ما يزيد على نصف العمالة السورية، تليها الإنشاءات، ثم الشركات والمحلات التجارية، ثم الأعمال الحرة، ثم المطاعم والمخابز، وتتوزع البقية في قطاعات عمل متفرق، كصيانة السيارات، والعمل في نقل الفحم وبيعه، والزراعة والإعلام والتعليم وغيرها بنِسَب بسيطة.
وتركز عمل معظم الأيدي العاملة السورية في سوق العمل غير الرسمي، حيث يعمل 90% منها بشكل غير نظامي ودون تراخيص عمل رسمية، رغم عدم وجود أي عائق قانوني لاستصدار هذه التراخيص؛ إلا رغبة أرباب العمل في التهرب من دفع التأمينات الاجتماعية، في محاولة لتخفيض تكلفة الإنتاج.
وسبّب العمل في القطاع غير الرسمي تعرّض العمالة السورية لحالة من الاستغلال، سواء من أرباب العمل السوريين أو الأتراك؛ إذ تشير النتائج إلى أن 92% من العمال السوريين يعملون أكثر من 8 ساعات عمل يومياً (45 ساعة عمل أسبوعياً)، بينهم 59% يعملون لما يزيد على 65 ساعة أسبوعياً، دون الحصول على تعويض مالي يتناسب مع العمل الإضافي، أو الحصول على حد مقبول من الإجازات أو الحقوق القانونية.
ورغم هذه الظروف الصعبة، فإن 75% منهم يتلقون رواتب أقل من الحد الأدنى للأجور، على الرغم من انتماء 87% من هذه العمالة للشريحة العمرية الشابة بين 18-30 عاماً، ويوجد كذلك عمال مؤهلون "أكثر من المطلوب" من حملة الشهادات الجامعية بنسبة 20% من إجمالي العاملين السوريين، يعملون في مِهن منخفضة الكفاءة وفي غير اختصاصاتهم، وهو ما يسبب خسارة مضاعفة؛ أولاً لعدم الحصول على تصريح عمل، ثم لعدم الاعتراف بشهاداتهم، وأخيراً لحصولهم على أجور أقل من السائدة في سوق العمل.
إذاً، يمكن القول إن العمالة السورية أفادت في تعظيم أرباح القطاع غير الرسمي في تركيا نتيجة لانخفاض الرواتب، ودعمت العديد من القطاعات الاقتصادية الأخرى، واعتمد عليها التوسع الملحوظ للاقتصاد التركي خلال الآونة الأخيرة، كذلك كانت ارتباطاتهم وعلاقتهم بالدول العربية المختلفة منفذاً هاماً لاقتحام المنتجات التركية لهذه الأسواق.
لم يتوقف الأمر عند العمالة، فقد أشار وزير التجارة التركي في يناير/كانون الثاني 2020، إلى أن عدد الشركات المملوكة لسوريين في تركيا، بلغ 13.880 شركة، بنسبة 2% من الشركات المملوكة للأجانب في البلاد، برأسمال 4 مليارات ليرة (نحو 480 مليون دولار)، وأن أغلب تلك الشركات تعمل في مجالات البناء، والمنتجات الغذائية، والملابس واستئجار العقارات، كذلك إن إجمالي حجم رأسمال الشركات الأجنبية في تركيا يقدر بنحو 151 مليار ليرة (نحو 18.2 مليار دولار).
إذاً، تحول السوريون من لاجئين إلى شريحة مجتمعية هامة من الشرائح داخل المجتمع التركي، فبعضهم الآن رجال أعمال وأصحاب رؤوس أموال، وعمال يفيدون ويستفيدون، وفي مطلع العام الحالي أشارت ساري أيدن، النائبة عن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، ورئيسة الرابطة الدولية للهجرة واللاجئين، إلى أنه حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2020 أسهم رجال الأعمال السوريون في توفير 100 ألف وظيفة، واستثمروا 3.5 مليارات دولار في سبع سنوات.
على الجانب الآخر، توسع السوق التركي الداخلي بصورة كبيرة نتيجة إضافة طلب 4 ملايين سوري يعيشون على الأراضي التركية، وهو ما سبّب التوسع الإنتاجي الكبير، مصاحباً انخفاض تكلفة الإنتاج بسبب الأجور المنخفضة.
تشير الأرقام الاقتصادية السابقة إلى فوائد اقتصادية متعددة للوجود السوري على الأراضي التركية، وما تروجه أحزاب المعارضة قد يبدو مستحيلاً على أرض الواقع. فمن سيرحل من السوريين؟ هل رجال الأعمال المحميون بقوانين الليبرالية العالمية أم العمال سند وعماد الاقتصاد غير الرسمي وآلاف الورش والمصانع التركية الصغيرة؟ لذلك، إن القواعد الجماهيرية العريضة من الشعب التركي تدرك وتعي ألاعيب المعارضة التي تريد أن تقفز بفشلها الانتخابي إلى مربع السوريين، مع أنّ من المفترض أن تكون أحزاب تركيا الليبرالية في مقدمة المدافعين عنهم، كذلك يتعين على رجالات الحزب الحاكم أن يزيدوا من تقديم الأرقام والإحصاءات التي تدحض هذه الادعاءات.