لا يتفق الرئيس الأميركي، جو بايدن، وخصمه الانتخابي اللدود، دونالد ترامب، على الكثير من القضايا، لكن لديهما رأي مماثل عندما يتعلق الأمر بالعلاقات التجارية الأميركية مع الصين، إذ يتبنيان سياسات لتقويض التمدد الصيني، بل ومحاصرتها ليس فقط في السوق الأميركية، وإنما في الكثير من الدول الحليفة ولا سيما أوروبا.
تجمع الأهداف بايدن وترامب في ما يخص الصين، لكن لكل منهما طريقته، فقد أطلق الرئيس السابق ترامب الذي وصفه محللون بـ"المتهور" شرارة الحرب التجارية عبر فرض الرسوم الجمركية الواسعة ضد السلع الصينية التي خلقت ضجيجاً كبيراً، بينما فضل بايدن سياسة الخنق الناعم عبر استهداف شركات صينية عملاقة، وتقويض وصول التكنولوجيا إلى الصين وصنعاتها، وتشكيل تكتل مع حلفائه لتنفيذ الرؤى نفسها، بجانب إبقائه على الرسوم الجمركية التي فرضها سلفه إلى حد كبير دون التخلي عنها.
في الأثناء بدت الصين على يقين من حالة التصعيد للاحتكاك التجاري مع الولايات المتحدة والذي يعرض تجارتها للخطر، لذا عملت على تسريع بناء هيكلها التجاري البديل وغيرت من أوراق اللعب مع واشنطن تحديداً، حيث عززت حضورها في الدول التي حولت الولايات المتحدة بوصلتها التجارية إليها كبديل لسلاسل التوريد، وركزت بكين على الصناعات الوسيطة، ما يصعب كثيراً من الانفصال الأميركي وكذلك الأوروبي عن الصين.
تحاول واشنطن بكل السبل حالياً كبح التنين الصيني الطامح إلى انتزاع الصدارة من أميركا صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، حيث انقضت فترة شهر العسل الأولى التي شهدت انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001.
كان من الواضح أن واشنطن وبكين كما يقول المصطلح الصيني "تتقاسمان السرير، لكنهما تحلمان بأحلام مختلفة"، فبينما أشاد رئيس الولايات المتحدة الأسبق آنذاك بيل كلينتون، بعضوية بكين باعتبارها "تعزيزاً للإصلاح السياسي" كان لزعيم الصين آنذاك جيانغ تسه مين، وجهة نظر مختلفة محذراً من الدافع الحقيقي لأميركا وهو "تغريب الدول الاشتراكية وتقسيمها".
واليوم بعد مرور أكثر من 20 عاماً، انتشر هذا الاحتكاك، وأصبحت منظمة التجارة العالمية، التي عقدت مؤتمرها الوزاري المقرر كل عامين هذا الأسبوع، رهينة للانقسامات الحادة بين الولايات المتحدة والصين مع تصاعد الاحتكاك التجاري بين الصين والغرب.
ومع تعثر المنظمة تعمل الصين على تسريع الجهود الرامية إلى بناء بنية تجارية بديلة معزولة عن نفوذ الولايات المتحدة وتتمحور حول العالم النامي مع جعل الأمر أكثر صعوبة على أميركا في الفكاك من خيوط تجارتها.
انفصال وهمي في ظل التفاف الصين
يسافر المسؤولون الأميركيون كثيراً حول العالم للترويج لنقل الإنتاج من الصين إلى أسواق أقل خطورة و"دعم الأصدقاء" والتحذير من الاعتماد المفرط على السلع الصينية في تأكيد على ضرورة الانفصال، لكن محللين اقتصاديين أكدوا أن ذلك لن يكون سهلا وأن الكثير من الانفصال المفترض بين أميركا والصين هو في الواقع وهمي، بل إن بعض التغييرات في سلاسل التوريد تؤدي في المقابل إلى ربط البلدين ببعضهما البعض بشكل أوثق.
يروج المسؤولون الأميركيون لأرقام تجارة السلع التي تقيسها الجمارك بدقة معقولة والتي تظهر البيانات تراجعها منذ عام 2017، لكن ذلك لا يمثل الصورة كاملة للتجارة بين العملاقين التي تدخل فيها أيضا تجارة الخدمات، بما في ذلك استخدام أميركا للتطبيقات الصينية والتي من الصعب تتبع تدفقاتها، وفق تقرير لمجلة إيكونوميست البريطانية.
الأرقام الرئيسية لا تحكي القصة بأكملها. فقبل التعريفات الجمركية التي فرضها ترامب في 2018، وأبقى عليها بايدن إلى حد كبير كانت الإحصاءات الأميركية تشير إلى أن أميركا تلقت واردات من الصين أكثر بكثير مما أظهرته الإحصاءات الصينية، والآن العكس هو الصحيح. إذ تشير تقارير الصين إلى أن صادراتها إلى أميركا ارتفعت بمقدار 30 مليار دولار بين عامي 2020 و2023، في حين تقول أميركا إن وارداتها الصينية انخفضت بمقدار 100 مليار دولار.
ولتفسير الفجوة بين الجانبين، يشير آدم وولف من شركة أبسولوت استراتيجي ريسيرش الاستشارية، إلى أن هذا التحول يعكس حقيقة مفادها أن المستوردين الأميركيين لديهم حافز لعدم الإبلاغ عن كمية مشترياتهم من الصين في الفئات التي تغطيها التعريفات الجمركية.
توفر البيانات الأخرى عاملاً إضافياً لصعوبة الانفصال. وتظهر جداول "المدخلات والمخرجات"، التي نشرها بنك التنمية الآسيوي، حول حصة النشاط الاقتصادي في أي بلد والتي يمكن إرجاعها إلى أنشطة أخرى. وبفحص 35 صناعة، تبين أن مساهمة القطاع الخاص الصيني في مدخلات الشركات الأميركية تضاعفت في 2022 مقارنة بعام 2017.
فقد ساهم القطاع الخاص الصيني في 2017 بنحو 0.41% في المتوسط من مدخلات الشركات الأميركية متجاوزاً نسبة 0.38% التي جاءت من ألمانيا و0.24% من اليابان. لكن بحلول 2022، تضاعفت حصة الصين لتصل إلى 1.06%، وهي زيادة تناسبية أكبر من حصة ألمانيا أو اليابان.
وقد تكون محاولات أميركا لبناء البنية التحتية للطاقة النظيفة أحد عوامل عدم الانفصال أيضاً عن الصين، مما يجعل واردات المعدات الكهربائية الصينية أكثر أهمية بكثير. ويبدو أنّ شركات قطاع الخدمات الأميركية تعتمد بشكل متزايد على الملكية الفكرية المملوكة في الصين.
ليس لدى قادة الصين أي نية للتخلي عن دور بلادهم في سلاسل التوريد العالمية، حتى في حين يحاول أكبر شريك تجاري لها قطع هذا الدور بفتور. وتقوم بنوك العملاق الآسيوي بإعادة توجيه الائتمان من العقارات إلى التصنيع، مما يزيد من احتمال حدوث وفرة في الصادرات الصينية. والعديد من عمالقة الصناعة الصينية الجدد في وضع جيد للاستفادة من هذه الاستراتيجية.
تمدد صيني في الفناء الخلفي لأميركا
ووفق إيكونوميست فإن صادرات الصين العالمية من السلع الوسيطة ارتفعت منذ عام 2019 بنسبة 32%، مقارنة بارتفاع في أنواع أخرى من الصادرات، مثل السلع التامة الصنع، بنسبة 2% فقط. وكان الدافع وراء هذه الزيادة هو الصادرات إلى دول مثل الهند وفيتنام، وهما من الشركاء التجاريين المفضلين للحكومة الأميركية.
وفي المقابل، تتزايد التجارة الأميركية مع هذه الدول، من 4.1% من وارداتها السلعية في عام 2017 إلى 6.4% حالياً. وتشير هذه الاتجاهات ضمناً إلى أن البلدين غالباً ما يعملان كمراكز تعبئة للسلع المصنوعة بمدخلات صينية والمتجهة إلى موانئ أميركا.
تجارة فيتنام مع أميركا تزدهر. لكن إنتاجها يظل متشابكاً بشكل عميق مع سلاسل التوريد الصينية، مما يعني أن قدراً كبيراً من الزيادة قد يكون ناتجاً عن منتجات ذات محتوى فيتنامي قليل. وأصبحت العلاقة بين صادرات فيتنام إلى أميركا ووارداتها من الصين الآن أعلى بكثير مما كانت عليه قبل فرض تعريفات ترامب الجمركية.
ورغم أن الوضع في المكسيك يبدو الوضع أكثر تعقيداً، حيث تخضع الصادرات للتدقيق لضمان أن الإنتاج تم في أميركا الشمالية، وفق الاتفاقية المبرمة بين الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، فإن بعض الصناعات التي تزدهر فيها الصادرات المكسيكية إلى أميركا تشهد مدخلات من الصين. فقد قفزت واردات المكسيك من الإمدادات الصناعية الصينية بنحو 40% منذ عام 2019، ما جعل الفناء الخلفي لأميركا مركزاً للصناعات الصينية أيضا.
وتبدو العديد من الدول سعيدة للغاية باللعب على كلا الجانبين، حيث تتلقى الاستثمارات الصينية والسلع الوسيطة، وتصدر المنتجات النهائية إلى أميركا. وتشكل الكفاءة الاقتصادية، التي يوفرها الحجم الضخم الذي تتمتع به الصين وخبرتها الصناعية، قوة عاتية لصالح الوضع الراهن. لذا فإن الانفصال الأميركي يبدو خطاباً قوياً، لكنه على أرض الواقع يظل مختلف تماماً.
اتفاقات للتجارة الحرة وتوسيع طريق الحرير
وبجانب العمل في الفناء الخلفي لأميركا تعزز بكين حضورها على طريق الحرير. وفي هذا الصدد، تتمثل استراتيجية بكين الرئيسية في الاستفادة من العلاقات مع "الجنوب العالمي" التي تعززت من خلال مبادرة الحزام والطريق البالغة قيمتها تريليون دولار، وهو برنامج استثماري أُطلق في عام 2013 ويضم أكثر من 140 دولة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ومناطق أخرى كمشاركين فيها.
ويقول المسؤولون الصينيون إن البنية قيد الإنشاء تدور حول شبكة تتمحور حول الصين من "اتفاقيات التجارة الحرة" الثنائية والإقليمية، والتي تسمح بالتجارة بتعريفات منخفضة مع تعزيز تدفقات الاستثمار المباشر. هذه الشبكة التي تضم حالياً مناطق تستحوذ على ما يقرب من 40% من صادرات الصين، يعني أنه إذا انهارت ولاية منظمة التجارة العالمية لإبقاء العالم مفتوحاً أمام التجارة الحرة، فسيكون لدى الصين على الأقل نظام دعم جزئي قائم. مع الإشارة إلى أن أي من اتفاقيات التجارة الحرة التي أبرمتها الصين لا تشمل الولايات المتحدة أو دولاً داخل الاتحاد الأوروبي.
يقول أستاذ القانون في جامعة سنغافورة للإدارة ومستشار منظمة التجارة العالمية، هنري جاو، لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، "لقد شعرت الصين بأنها بحاجة إلى بناء نظام بديل يخدم مصالحها الخاصة".
ويضيف جاو: "يعتمد هذا البديل بشكل أساسي على مبادرة الحزام والطريق، التي تحاول الصين تدريجاً تحويل صادراتها إليها من الأسواق التقليدية مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي".
ويعكس سعي الصين لحماية تجارتها قلقها في شأن ذبول النظام التجاري العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وهو التهديد الذي اشتد منذ عام 2018 عندما فرض آنذاك ترامب تعريفات جمركية ضخمة على التجارة مع الصين. وتشير التقديرات إلى تقلص قيم التجارة العالمية بنسبة 5% العام الماضي مع ارتفاع عدد "التدابير المقيدة للتجارة" التي تشمل التعريفات الجمركية والتدابير غير الجمركية بشكل كبير، وفقاً لـ "الأونكتاد"، وهي هيئة إنمائية تابعة للأمم المتحدة.
ويشكل التوقيع على اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والإقليمية أولوية بالنسبة للرئيس الصيني شي جين بينغ، والذي قال في خطاب ألقاه في سبتمبر/أيلول الماضي: "ستسعى الصين جاهدة لبناء بيئة أكثر انفتاحاً وشمولاً للتنمية... الصين ستوسع الشبكة ذات التوجه العالمي لمناطق التجارة الحرة عالية المستوى".
ويطرح مسؤول تجاري صيني، رفض ذكر اسمه وفق "فايننشال تايمز" الأمر بقوة أكبر، إذ يقول المسؤول، "تلعب الصين الدور الرائد في التجارة الحرة، بينما أصبحت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكثر حمائية".
وأضاف "نحن بحاجة إلى تسريع عدد اتفاقيات التجارة الحرة التي نوقعها وكذلك ضمان جودة هذه الاتفاقيات من أجل خلق مساحة كافية لتنمية الصين".
وشكلت صادرات الصين من السلع إلى كافة البلدان والأقاليم التي تغطيها شبكة اتفاقية التجارة الحرة نحو 38% من صادراتها العالمية في الأشهر الـ12 التي انتهت بنهاية أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. وخلال هذه الفترة، قامت الصين بشحن نحو 3.43 تريليونات دولار من البضائع حول العالم، حيث استحوذت شبكة اتفاقيات التجارة الحرة الخاصة بها على ما يقرب من 1.3 تريليون دولار من هذا الإجمالي.
غضب أميركي من العالم البديل
وأثارت التحركات الصينية الواسعة لإبرام اتفاقيات للتجارة الحرة مع الكثير من البلدان والتكتلات الاقتصادية غضب الولايات المتحدة، إذ قدم مكتب الممثل التجاري حديثاً تقريره لعام 2023 بشأن التزام الصين تجاه منظمة التجارة العالمية إلى الكونغرس الأميركي، والذي ينتقد مساهمة الصين في النظام التجاري متعدد الأطراف والاقتصاد العالمي بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية قبل أكثر من عقدين.
لكنّ بكين لن تتوقف عند الشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية، فهي تتفاوض حالياً على 10 اتفاقيات تجارة حرة، ستمثل نحو 4% أخرى من صادراتها العالمية، وفقاً لحسابات "فايننشال تايمز".
ومن ناحية أخرى، يجرى الآن أيضاً إعداد دراسات جدوى لثماني اتفاقيات تجارة حرة أخرى، والتي في حال إبرامها ستمثل ما يقرب من 2.6% إضافية من الصادرات الصينية إلى العالم.
أما على المدى الطويل، سينصب تركيز بكين على توجيه تجارتها بشكل أكبر نحو العالم النامي من خلال استخدام علاقاتها مع أكثر من 140 دولة تغطيها مبادرة الحزام والطريق وتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة معها إذا أمكن ذلك، وفق ما يقول المحللون الصينيون.
ويرى مايكل باور محلل الأسواق الناشئة في شركة إدارة الأصول "ناينتي وان" أنّ ارتباط الصين التجاري مع الدول النامية دليل على أن العالم يميل نحو محوره.
وقال "الصين لا تحاول فقط إنشاء نظام عالمي بديل، إنها تنجح... ولا يستطيع الكثيرون في الغرب قياس النجاح الذي تحققه الصين في بقية العالم.. بينما يبدأ الغرب في الانفصال عن الصين، فإن بقية العالم يعيد توجيه نفسه نحو الصين".
لكن المحلل في مجلس العلاقات الخارجية، زونجيوان زوي ليو، وهو مركز أبحاث مقره نيويورك يقول إن "شبكة الصين المتوسعة من اتفاقيات التجارة الحرة الثنائية والشراكة الاقتصادية الشاملة الإقليمية لا يمكنها عزل الصين بشكل فعال عن الاحتكاك التجاري المتصاعد مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي... لا يمكن بسهولة تعويض الخسائر التجارية الناجمة عن التوترات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من خلال التجارة مع دول ومناطق أخرى".