في شهر يناير/ كانون الثاني من هذا العام 2023، نشرت مجلة "ذا إيكونومست" معلومات مذهلة عن مدى التقدم الاقتصادي الذي حققته دولة بنغلادش. وقد سبق لي أن زرتها عام 2009 على رأس وفد من صندوق الأمم المتحدة للإنماء لإجراء دراسة شاملة عن اقتصادها. وقد أجريت دراسة ADR أو Assessment of Development Results (تقدير حصيلة النماء) إذ تقدر فاعلية ونجاعة المساعدات الإنمائية المقدمة لهذه الدولة في تحقيق أهدافها.
وبعد مضي ما يقارب الشهر، ومقابلة مئات المسؤولين من الشيخة حسينة واجد (رئيسة الوزراء الجديدة والتي لا تزال حتى الآن)، وقابلت زعيمة المعارضة خالدة رضا، ووزير الخارجية، ووزراء آخرين، ورؤساء بنوك الفقراء مثل بنك غرامين الذي كان يرأسه د. محمد يونس مؤسس البنك، والذي زاملته لمدة عام دراسي في الولايات المتحدة، وكذلك زرت مدناً مثل العاصمة دكا، وتشيتاغونغ، وسوراج غنج، ومنطقة السكان الأصليين، خرجت مع الفريق بنتائج غير مرضية.
فقد وجدنا أن المساعدات والقروض الإنمائية يضيع الكثير منها بسبب الفساد المستشري. ورغم أنّ بنغلادش قد حُكمت من امرأتين الأولى ورثت الحكم عن أبيها (الشيخة حسينة) والأخرى عن زوجها (خالدة ضياء)، فإنّ عدد النساء اللواتي وصلن إلى مراكز عليا كان محدوداً جداً. ولما سألت الشيخة حسينة عن سبب هذا التناقض، ابتسمت وأجابت: "سيدي أنت تفترض أنني وزعيمة المعارضة نساء، لو تصرفنا كنساء لأكلنا الرجال أحياء".
وفي ذلك التقرير وجدنا أن فاعلية المساعدات تقل عن 30% من حيث إنجازها الأهداف التي مُنحت لتحقيقها. ولا يعود السبب إلى الفوضى الناجمة عن الخلافات السياسية والفساد وعوامل الطبيعة المتقلبة فحسب، ولكن وجد أن عدم التنسيق بين مختلف الجهات المانحة هو سبب جوهري، حيث لا يقوم البنك الدولي وصندوق الأمم المتحدة للإنماء وصندوق النقد الدولي والدول الكبرى المانحة مثل الولايات المتحدة، وغيرها بالتنسيق بين بعضها البعض. وقد أدى ذلك إلى الازدواجية، وعدم التركيز على المشروعات المهمة، وعلى فتح باب الفساد.
لكنني لمست هناك جدية في الخروج من الواقع الأليم الذي كانت تعاني منه البلاد. ففي الريف مثلاً كان المرابون يمنحون قروضاً صغيرة مقابل فائدة تصل إلى 1300%، وإذا عجز المقترض عن السداد، تؤخذ منه بقرته، أو ماعزته، أو حتى ابنته كجزء من السداد. وقد أدى الفقر مع الاستغلال الشديد إلى فشل التنمية الريفية في بلد تعتبر ثروته ووفرة الماء فيه سبباً لازدحامه. فأرض بنغلادش هي دلتا واقعة بين نهري الغانغا والجمنا عدا عن نهري براهمابوترا وميغنا.
ولاحظت كذلك أن الشعب البنغلادشي يتمتع بدرجة عالية من احترام الذات، فقد كنت أشتري الموز الصغير ذا الطعم الرائع من البائعين على الطرقات، وكنت أعطيهم ورقة نقدية قيمتها أكبر من سعر الموز، وقد لاحقني البائعون ركضاً خلف السيارة التي أركبها ليردوا إلي الباقي قائلين: "نحن بائعون ولسنا شحاذين".
ولما كنت أزور المواقع، لاحظت أنهم يتمتعون بالفضول والرغبة في التجديد. وفي أحد المراكز المهنية، تمكن طالب من تصميم عبوة غاز تستخدم بدل المازوت لسياقة "التوك توك" الذي يستخدمونه بكثرة. وعلمت حينها أيضاً أنّ عدد الريكشا (عربة يسوقها إنسان) قد بلغ مائتي ألف تعمل ثلاث فترات في اليوم.
وفي المقابل، فإن البنغال أنجبت أناساً من خيرة رجال شبه القارة الهندية أمثال روبندرونات طاغور (القصاص الهندي الفائز بجائزة نوبل)، ومنهم أيضاً الاقتصادي الشهير أمارتيا سين، الفائز بجائزة نوبل أيضاً، والمخرج السينمائي المبدع ساتياجيت راي، ومنهم الاقتصادي علي أكبر خان، وكذلك آنو رحمن وغيرهم. وهذا قطر من نهر، ولذلك، فإن بنغلادش مهيأة لأن تتفوق وتبدع.
وقد حصلت المعجزة. ومنذ عام 2009 حتى الآن حققت بنغلادش نمواً اقتصادياً بلغ 7.2%، وهي من أعلى النسب في العالم وإن كان هذا الإنجاز لا يكاد يذكر في العالم العربي. وصارت ثاني أكبر اقتصاد في جنوب آسيا متفوقة على باكستان. وهي الآن تقع في المركز الخامس والثلاثين عالمياً من حيث القيمة الاسمية للناتج المحلي الإجمالي، والمرتبة الخامسة والعشرين إن قسنا إنتاجها المحلي الإجمالي وفق تعادل القوة الشرائية أو (PPP). ويبلغ عدد سكانها حالياً (166) مليون نسمة، وناتجها المحلي الإجمالي (461) مليار دولار. وارتفع ناتجها المحلي الإجمالي من (103) مليارات دولار عام 2009 إلى حوالي أربعة أضعاف ونصف عام 2022.
وتشهد الدولة الآن نهضة شاملة في مجال تنظيف البيئة، وتعزيز دور الطبقة المتوسطة، والإعمار الحديث. ولعل المجال يتسع هنا للإشارة إلى المهندسة المعمارية التي أحدثت تحولاً كبيراً في العمارة في بنغلادش وجعلتها أكثر فاعلية واستخداماً متعدد الأغراض، وهي المهندسة مارينا تبسُّم Marina Tabassum التي فازت بجائزة آغا خان عام 2016 مكافأة لها على تصميم مسجد "بيت الروف" الذي يستخدم جامعاً كبير للصلاة، ومركزاً للخدمات والتدريب، ومركز اجتماعات للسكان لبحث الشؤون العامة، وتبلغ من العمر 55 عاماً. وتمثل مارينا تبسم الروح الجديدة الراغبة في التجريب، والغور في أفكار جديدة لحل المشاكل، والاستعداد للخوض في التغيير. وهذه هي الروح التي تسود الآن في واحدة من الدول التي عانت من الاستغلال ومن الفقر المدقع.
وقد ركز الكثير من المحللين العرب على تجربة تركيا التي بدأت بالرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال، وتفوقت وازدهرت أيام الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان. والذي سيخوض معركة انتخابية ليست سهلة الشهر المقبل (مايو/أيار). وكذلك لا ننسى تجربة ماليزيا التي قادها الراحل مهاتير محمد، ونجح في إلهاب حماس الماليزيين، ومنحهم الروح التي أدت إلى رفعتهم الاقتصادية.
ونشهد هذه الأيام ثورة تنموية شاملة في المملكة العربية السعودية، يقودها الأمير الشاب محمد بن سلمان، والذي وجد أن الفرصة قد سنحت بعد سنوات من الخطوات المترددة والتركيز على التعليم والبنية التحتية، لكي يستثمر هذا كله في تنويع اقتصاده. ويتبنى سياسات أكثر جرأة ودفاعاً عن المصالح العليا لبلده. المهم أنه نجح أيضاً في تحريك القاعدة الإنسانية، ووجد خلفه ملايين الشباب الذين درسوا في الخارج. والذين يريدون أن يخرجوا من أسر التقاليد والتفسير المغلق للدين، لكي يعيدوا الروح إلى بلدهم.
وبغض النظر عن المواقف السياسية لدولة الإمارات تجاه إسرائيل، فإنني قد عشت في هذا البلد سبع سنوات ونيف بين 2001 - 2008، وتعلمت منهم الكثير. وقام قادة تلك الدولة بالإبداع في جعل بلدهم ومدنه الرئيسية منارات عالمية في النظام والتزويد وحسن البناء والتنظيم والإيمان بقدرتهم على الإنجاز.
وبالطبع، هناك دول أخرى بدأت تتحرك وتنوّع اقتصادها. ومهما كانت الانتقادات التي توجه أحياناً للرئيس الإندونيسي جوكو ويدودو Joko Widodo، فإن الاقتصاد الإندونيسي يشهد أيضاً تحولاً واضحاً ونمواً محترماً وتنويعاً في مجالات الصناعة والزراعة والسياحة والعمارة وغيرها من المجالات.
ومصر استطاعت، رغم الضائقة النقدية التي تمر بها، أن تنجز الكثير، وأثبت الشعب والقيادة أنّ بإمكان المصريين الإعمار واستكمال البنى التحتية، وتحسين الخدمات، وتنويع المنتج المصري. ولا يجوز أن ننكر حجم التغيير الذي حدث في الثلاثين سنة الأخيرة هناك.
وأظن أنّ جمهورية إيران الإسلامية قد أثبتت قدرات خارقة على التفاوض والتصدي، وبناء جيش قوي، وتطوير المقدرات الإنتاجية والتكنولوجية. لكن عليها أن تخفف من حكم الملالي، وتطلق طاقات شعبها. وبتعاون إيران وتركيا مع دول وسط آسيا ذات الموارد الجمة، ستحظى هذه الدول بفرصة ثمينة لا تعوض.
والأردن التي تأكد الآن أنّ هناك قراراً سياسياً ملكياً بضرورة إحداث نقلة نوعية في المملكة في الانفتاح السياسي، والإصلاح الإداري، والتحديث الاقتصادي، قد بدأت تسير في تنفيذ هذه الرؤية.
والسؤال الآن: هل تستطيع الدول العربية أن تخلق لنفسها دائرة دولية خارج الاصطفافات الحالية للدول العظمى، وتعمق علاقاتها بالدول الإسلامية، والتي يبدو أنها قادرة على النمو، ومستعدة لمد يدها للعرب بقوة؟ أعتقد أن هذا الأمر يحتاج إلى منهجية وخطة تنبع من صميم منظمة التعاون الإسلامي.