بالتزامن مع تزايد الاهتمام العالمي بنشاطها في آخر سنوات العقد الماضي، تباينت ردود فعل دول العالمين العربي والإسلامي تجاه ظهور وانتشار العملات المشفرة، حيث حظر بعضها التعامل فيها، مثل باكستان وإندونيسيا، وحرمها بعض آخر، مثل السعودية ومصر، بينما اتخذت دول أخرى، مثل البحرين والإمارات العربية المتحدة، نهجاً أكثر حذراً، حيث سمحت باستخدام العملات المشفرة، ولكن مع فرض بعض القيود.
واستند من حظر إلى عدم وجود ضوابط تنظم معاملات العملات المشفرة في العديد من البلدان، ما أدى إلى مخاوف بشأن سلامتها وأمانها. وبرر المُحَرمون فتواهم بسبب ما رأوه من استخدام غالب لها في المضاربة أو المقامرة، ورأوا ذلك محظوراً في الإسلام.
وعلى الرغم من هذه المخاوف، كان هناك اهتمام متزايد بالعملات المشفرة في أغلب بلدان العالمين العربي والإسلامي، تارة بسبب طبيعتها اللامركزية، وما يمكن أن تسهله من معاملات دولية منخفضة الكلفة، وتارة أخرى في إطار بحث المواطنين عن أصول يمكن من خلالها تخزين القيمة، والابتعاد عن دوامة التضخم، التي سقط فيها العديد من دول العالمين، خلال الأشهر الأخيرة.
اهتمت مجلة "ذي إيكونوميست" البريطانية باختلاف تعامل علماء المسلمين مع العملة المشفرة، ونشرت في عددها الأخير تقريراً استهلته بالإشارة إلى فتوى مفتي مصر شوقي علام في عام 2018، التي حرم فيها التعامل بالعملة المشفرة، مؤيداً حظر الحكومة المصرية لتداول بيتكوين. وأشارت المجلة إلى أن العديد من علماء المسلمين الآخرين كانوا أقل تشدداً، حيث دعوا إلى فهم خصوصيات وعموميات التشفير، قبل اتخاذ قرار التحريم أو رفضه.
لم يمنع اختلاف نظرة العلماء إلى بيتكوين وشقيقاتها من العملات المشفرة المواطنين في العالمين العربي والإسلامي من شراء العملات المشفرة، خاصة بعد المكاسب الكبيرة التي حققها مشترو العملة، التي تجاوز سعرها في بعض الأوقات 65 ألف دولار للوحدة الواحدة (حالياً هي أكثر قليلاً من 30 ألف دولار).
والعام الماضي، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أسرع أسواق العملات المشفرة نمواً في العالم، وفقاً لشركة hainalysis للبيانات ومقرها نيويورك، التي أشارت إلى أن المغرب كان في صدارة بلدان المنطقة. وأشارت الشركة أيضاً إلى أنه على الرغم من الحكم العدائي الذي أصدره مفتيهم، فإن المصريين، المدفوعين بالضغوط التضخمية وانخفاض قيمة عملة بلادهم، قادوا الزيادة في تعاملات العملات المشفرة بين بلدان المنطقة.
وحالياً، تحاول بعض الحكومات في دول الشرق الأوسط تنظيم تجارة العملات المشفرة والتحكم في بورصاتها. ويُنظر إلى البحرين، الدولة الصغيرة مساحة وسكاناً، والتي حاولت دائماً أن تكون رائدة في التعاملات المالية، على أنها كانت أيضاً رائدة في التعامل مع هذه النوعية من العملات، حيث كان مصرفها المركزي في 2019 أول من أصدر ترخيصاً تنظيمياً لبورصة العملات المشفرة، المعروفة باسم Rain، مؤكداً توافقها مع الشريعة الإسلامية.
ومن ناحية أخرى، أصبحت الإمارات العربية المتحدة مركزاً إقليمياً للعملات المشفرة، وفقاً للإحصائيات المنشورة، وهو أمر كان متوقعاً بالنظر إلى الدور الذي لعبته دبي، وما زالت، في سوق الأعمال وتحويلات الأموال.
أشارت "ذي إيكونوميست" إلى أنه من المقرر تداول "العملة الإسلامية" قريباً، وهي عملة مشفرة محلية جديدة، يدعمها العديد من أفراد الأسرة الحاكمة في الإمارات. ويقول مؤسسو تلك العملة إنها أول عملة رقمية "حلال 100%" في العالم، حيث يذهب 10% من أي مبلغ يتم إصداره إلى مؤسسة خيرية إسلامية. وتشير التصريحات الصادرة إلى أن مؤسسي العملة نجحوا بالفعل في "تأمين" الفتاوى التي تثبت صحة ادعاءاتهم.
لا يعرف أحد على وجه التحديد، حتى الآن، باستثناء مصدريها ربما، ما الذي يمكن أن يجعل هذه العملة حلالاً والأخريات حراماً، أو ما الذي يجعلها أقرب إلى الشريعة الإسلامية من غيرها، وذلك بالتأكيد مع استبعاد أن يكون العامل الوحيد المحدد لذلك هو توجيه نسبة من القيمة المصدرة إلى المؤسسات الخيرية.
لكن، على الرغم من هذه المخاوف، فمن المؤكد أن هناك العديد من الفوائد المحتملة للعملات المشفرة من منظور إسلامي. فعلى سبيل المثال، ما زالت العملات المشفرة تتمتع باللامركزية، ما يعني أنها ليست خاضعة لسيطرة الحكومات والبنوك المركزية، وهو ما يجعلها خياراً جاذباً للمسلمين الذين يعيشون في بلدان ذات اقتصادات غير مستقرة، تهدد في أغلب الأحيان استقرار قيمة مداخيلهم ومدخراتهم واستثماراتهم.
وبالإضافة إلى ذلك، يستعد العالم بصورة واضحة للتحول تماماً عن استخدام العملات التقليدية في تنفيذ المدفوعات الدولية، لصالح استخدام العملات المشفرة بدلاً منها، للابتعاد عن أي أطراف وسيطة يمكن أن تتسبب في زيادة الكلفة أو في تعطيل إتمام التحويل.
هذه بالتأكيد ليست دعوة لأي شخص لشراء أي من العملات المشفرة، ولا حتى بيعها، وإنما هي دعوة لتوفير البيئة السليمة اللازمة للقائمين على الأمر ولمصدري الفتاوى والمشرعين والعاملين بالجهات القضائية والمالية والوساطة وغيرهم، من أجل فهم أفضل لطبيعة تلك العملات، وأحكام وتنظيمات التعامل فيها، قبل إصدار أحكامهم أو فتاويهم.
لا بد من تعزيز الوعي وتثقيف الجمهور حول العملات المشفرة وفوائدها والتكنولوجيا المستخدمة (البلوكتشين)، من خلال عقد ورش العمل والندوات والحملات عبر الإنترنت، لشرح المفهوم وحالات الاستخدام المحتملة والإجراءات المطلوبة.
ويسهل الأمور أيضاً تنشيط التعاون بين الشركات المتخصصة في التعامل بالعملات المشفرة والمؤسسات المالية التقليدية، وفي مقدمتها البنوك بالتأكيد. هذه الخطوة ستكون مفيدة جداً، خاصة في معالجة المخاوف المتعلقة بمحاولات الاحتيال، التي يفترض أن البنوك في منطقتنا العربية قطعت فيها شوطاً طويلاً.
وأخيراً، أتمنى ألا نترك الأمر لعلماء الدين وحدهم، فهناك دور كبير مطلوب من الحكومات يوضح الفوائد الاقتصادية المحتملة لاعتماد العملات الرقمية، مثل جذب الاستثمارات، وتعزيز الابتكار، وتسهيل المعاملات عبر الحدود، كما توضيح الآلية التي يتم التعامل بها في تلك العملات، وهو ما سيكون أفضل بالتأكيد من دفن رؤوسنا في الرمال، بينما يتحرك الآخرون فيسبقوننا بآلاف الأميال.