قصور تُبنى في عاصمة إدارية جديدة شرقي العاصمة المصرية القاهرة، وأبراج شاهقة الارتفاع على شاطئ البحر المتوسط في مدينة العلمين شمال البلاد، وبينهما قطار فائق السرعة يخدم الأغنياء بكلفة 23 مليار دولار.
وفي المقابل، فقراء يقدمون على الانتحار بسبب معاناتهم من ضغوط أسرية، لا تنفصل بطبيعة الحال عن تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تحت حكم الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي.
ويسعى السيسي جاهداً إلى فصل المجتمع المصري إلى عالمين: الأول خاص بالأغنياء وبحاشيته من المسؤولين الكبار في الدولة وأسرهم، ويظهر ذلك بوضوح من خلال توجيه الحكومة مخصصات الموازنة لبناء الطرق والجسور الرابطة بين المنتجعات والمدن الجديدة.
أما الثاني فهو للغالبية العظمى من المصريين المسحوقين تحت وطأة الغلاء، ويعانون من غياب الخدمات الأساسية، وارتفاع أسعارها بصورة تفوق قدراتهم المالية.
ولعل انتحار موظف بإلقاء نفسه من أعلى المبنى الذي يقع فيه مقر عمله، في ضاحية التجمع الخامس بالقاهرة، نتيجة تراكم ديون القروض و"البقالة" عليه، وتعرّضه إلى مضايقات مستمرة من مديره، وتهديده بالفصل، أبرز دليل على فقد قطاع كبير من المصريين للأمل في غد أفضل. ليس فقط من جراء ارتفاع تكلفة المعيشة منذ تحرير سعر صرف الجنيه قبل 5 سنوات، ولكن أيضاً للزيادة الكبيرة في أسعار البنزين والكهرباء والغاز الطبيعي ومياه الشرب عاماً بعد عام.
وأثقلت فواتير الاستهلاك الشهرية من الأعباء على المصريين خلال عام 2021، لا سيما الفقراء منهم ومحدودي الدخل، الذين باتوا يقتطعون ربع دخلهم على الأقل لسداد هذه الفواتير، بعد أن ارتفعت أسعار الكهرباء بنسبة 860% منذ تولي السيسي الحكم عام 2014، وأسعار الغاز بنسبة تصل إلى 2400%.
إذ قفز سعر شريحة الاستهلاك الأولى للاستخدام المنزلي (حتى 30 متراً مكعباً) من 10 قروش فقط قبل 7 سنوات إلى 250 قرشاً حالياً (الجنيه يحوي 100 قرش).
كما ارتفعت أسعار أسطوانات البوتاغاز للاستهلاك المنزلي مجدداً في العام المنقضي، ليصل سعر الأسطوانة إلى 70 جنيهاً (4.45 دولارات)، والتي كانت تباع بـ5 جنيهات فقط في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، مع قفز أسعارها للاستهلاك التجاري من 16 جنيهاً إلى 140 جنيهاً، علماً أن الأسطوانة تباع للمستهلك بزيادة 10 جنيهات على سعرها الرسمي، سواء للاستهلاك المنزلي أو التجاري.
ويرى خبراء اقتصاد أن أكثر من نصف عدد السكان في مصر يقبعون تحت خط الفقر، نتيجة سياسات ترضخ إلى تعليمات صندوق النقد بشأن تقليص الدعم، وتحرير أسعار الوقود والكهرباء نهائياً، فضلاً عن خفض أعداد الموظفين الحكوميين، ارتباطاً بالحصول على عدة قروض من الصندوق بلغ إجماليها 20 مليار دولار تقريباً منذ 2016.
والفقر متعدد الوجوه في مصر، فهو لا يرتبط فقط بقلة النقود والمداخيل وارتفاع حجم الإنفاق، بل كذلك بالمعاناة الطويلة من البطالة التي تطاول نحو 17% من الشباب. بينما يكثف النظام من إقامة الاحتفالات والمهرجانات التي تكلف خزينة الدولة ملايين الدولارات، بصفة باتت شبه أسبوعية تحت شعار "الجمهورية الجديدة"، و"الإنجازات" التي تحققها الدولة في مجالات الطرق، والجسور، والنقل، والكهرباء.
زيادات مستمرة في الكهرباء
ورغم خلو الموازنة المصرية من أي مخصصات لدعم الكهرباء في العامين الماليين 2020-2021 و2021-2022، إلا أن وزير الكهرباء، محمد شاكر، أعلن عن استمرار الزيادة السنوية في أسعارها حتى العام المالي 2024-2025، بحجة تحمّل خزانة الدولة نحو 22 مليار جنيه قيمة خفض أسعار الكهرباء للقطاع الصناعي لمدة 5 سنوات مالية، تحت ذريعة احتواء التداعيات الاقتصادية لأزمة تفشي جائحة كورونا.
وشهدت أسعار الكهرباء المنزلية في مصر 8 زيادات متوالية منذ يونيو/حزيران 2014، ليرتفع سعر الكيلوواط في شريحة الاستهلاك الأولى (من صفر إلى 50 كيلوواط في الشهر) من 5 قروش إلى 48 قرشاً، وفي الشريحة الثانية (من 51 إلى 100 كيلوواط) من 11.5 قرشاً إلى 58 قرشاً، وفي الشريحة الثالثة (من 101 إلى 200 كيلوواط) من 17.5 قرشاً إلى 77 قرشاً.
فيما ارتفع سعر الكيلوواط في الشريحة الرابعة (من 201 إلى 350 كيلوواط) من 29 قرشاً إلى 106 قروش، وفي الشريحة الخامسة (من 351 إلى 650 كيلوواط) من 53 قرشاً إلى 128 قرشاً، وفي الشريحة السادسة (من 651 إلى ألف كيلوواط) من 67 قرشاً إلى 140 قرشاً، وفي الشريحة السابعة (أكثر من ألف كيلوواط في الشهر) من 58 قرشاً إلى 145 قرشاً.
كذلك صدق الرئيس المصري هذا العام على القانون رقم 70 لسنة 2021 بتعديل بعض أحكام قانون الكهرباء رقم 87 لسنة 2015، والذي يهدف إلى "خصخصة" خدمات المرفق من خلال الفصل بين أنشطة نقل وإنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية، وتحويل سوق الكهرباء من سوق حكومية إلى سوق تنافسية.
ارتفاع أسعار الغاز والمياه
من جهتها، فرضت وزارة البترول زيادة جديدة على أسعار الغاز الطبيعي للاستهلاك المنزلي، اعتباراً من 1 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. إذ تم رفع سعر شريحة الاستهلاك الأولى (صفر حتى 30 متراً مكعباً) من 2.35 جنيه إلى 2.50 جنيه للمتر المكعب، وسعر شريحة الاستهلاك الثانية (من 31 متراً مكعباً حتى 60 متراً مكعباً) من 3.10 جنيهات إلى 3.25 جنيهات، وسعر شريحة الاستهلاك الثالثة (من 61 متراً مكعباً فأكثر) من 3.60 جنيهات إلى 3.75 جنيهات.
أما أسعار مياه الشرب للمنازل، فقد ارتفعت من 12 قرشاً في عام 2014 إلى 65 قرشاً حالياً، بالنسبة للمتر المكعب في شريحة الاستهلاك الأولى (بين صفر وعشرة أمتار مكعبة)، ومن 24 قرشاً إلى 160 قرشاً في الشريحة الثانية (من 11 إلى 20 متراً مكعباً)، ومن 36 قرشاً إلى 225 قرشاً في الشريحة الثالثة (من 21 إلى 30 متراً مكعباً).
ويضاف إلى إجمالي فواتير المياه المنزلية في مصر نسبة 42% لصالح منظومة الصرف الصحي، بدعوى مساهمة المواطنين في تكلفة معالجته، وإعادة تدويره، وعدم تقديم الحكومة خدمة مياه الشرب منفصلة عن خدمة الصرف الصحي، في حين ترتفع هذه النسبة إلى 77% من إجمالي فاتورة المياه للاستخدامات غير المنزلية.
3 زيادات متوالية للبنزين
وفي ما يتعلق بأسعار البنزين، فقد شهدت 3 زيادات متوالية خلال الأشهر التسعة الأخيرة بلغ مجموعها 0.75 جنيهاً لليتر، بدعوى ارتفاع الأسعار العالمية للوقود، ليصل سعر الليتر من بنزين (أوكتان 80) إلى 7 جنيهات، ومن بنزين (أوكتان 92) إلى 8.25 جنيهات، وبنزين (أوكتان 92) من 9.25 جنيهات.
وتحصل وزارة المالية رسماً ثابتاً قيمته 30 قرشاً على كل ليتر مبيع من البنزين بأنواعه، و25 قرشاً على كل ليتر من السولار، بما يتيح تثبيت سعر البيع محلياً في حال تراجع أسعار الوقود العالمية عوضاً عن خفضه للمواطنين. وفي المقابل، رفع السعر على المواطنين مع كل زيادة في أسعار خام "برنت" عالمياً.
وتقضي المعادلة السعرية في مصر بتعديل أسعار البنزين كل ثلاثة أشهر، بما لا يتجاوز نسبة 10% (صعوداً وهبوطاً) من السعر المبيع في السوق المحلية؛ استناداً إلى ثلاثة عوامل رئيسية، هي السعر العالمي لبرميل النفط، وسعر صرف العملة المحلية (الجنيه) أمام الدولار، ومقدار التغير في عناصر الكلفة.
يذكر أن دعم المواد البترولية تراجع في الموازنة المصرية الحالية (بدأت في الأول من يوليو/تموز الماضي) إلى 18.41 مليار جنيه بنسبة خفض بلغت 35%، مع العلم أنه كان يبلغ 145 مليار جنيه في موازنة العام المالي 2017-2018، أي أنه تراجع بنسبة تزيد على 87% خلال أربعة أعوام مالية فقط، تمهيداً لإلغاء الدعم نهائياً عن الوقود في الموازنة العامة للدولة على غرار الكهرباء.
ضغوط معيشية غير مسبوقة
ونتيجة الزيادات الكبيرة والمتوالية في أسعار جميع الخدمات والسلع الأساسية، يواجه المواطن ضغوطاً معيشية غير مسبوقة نتج عنها الكثير من وقائع الانتحار، وجرائم القتل الأسرية، وعرض بعض الآباء أطفالهم للبيع على مواقع التواصل تحت ستار التبني، نتيجة عدم القدرة على إعالتهم مادياً، أو تأمين احتياجاتهم اليومية من طعام وشراب.
وتتباين التقديرات الرسمية وغير الرسمية بشأن إجمالي حالات الانتحار في مصر، غير أن عام 2021 شهد تزايداً في جرائم القتل الأسرية والانتحار على خلفية تفشي البطالة، والارتفاع المتصاعد في أسعار السلع والخدمات العامة.
وسجلت مصر 78 حالة انتحار على الأقل في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021، فيما بلغ عدد الحالات في الأشهر الستة الأولى 201 حالة، وفق تقرير صادر عن "المؤسسة العربية لحقوق الإنسان".
وأشار التقرير إلى استخدام 8 وسائل للانتحار في تلك الفترة، وهي بحسب الأكثر شيوعاً: الشنق، وتناول أقراص سامة أو كيميائية، والقفز في نهر النيل، وإلقاء المنتحر نفسه من مكان مرتفع، وإطلاق النار على النفس، وإشعال النار في الجسد، والقفز تحت قضبان القطار.