لم يثمر مجهود سلطات تونس في مكافحة الغلاء عن أي نتائج ملموسة، إذ تظل التدابير المعلن عنها منذ أشهر بخفض الأسعار حبرا على ورق، بينما يواجه المواطنون يوميا زيادات معلنة وأخرى غير معلنة وسط توقعات بارتفاع نسبة التضخم إلى أكثر من 8 بالمائة خلال النصف الثاني من السنة الحالية.
ومنذ شهر يوليو/ تموز الماضي، وهو تاريخ إحكام الرئيس قيس سعيد قبضته على كافة السلطات بمقتضى التدابير الاستثنائية، أعلنت الحكومة حربا بلا هوادة على المحتكرين بغاية السيطرة على الأسواق، غير أن نسق الأسعار اتخذ اتجاها معاكسا تماما للأهداف الحكومية بتصاعد التضخم وارتفاع أثمان المواد الأساسية إلى مستويات قياسية.
وتعتمد تونس في مكافحة الغلاء على ترسانة قوانين قديمة وأخرى جديدة، إذ أعلنت حكومة نجلاء بودن منذ أشهر عن برنامج وطني للمراقبة الاقتصادية وتصيّد المحتكرين، بينما أصدر سعيد في 20 مارس/ آذار الماضي مرسوما يتعلّق بمقاومة المضاربة غير المشروعة.
ويهدف المرسوم إلى تأمين التزويد المنتظم للسوق وضبط مسالك التوزيع، كما يصل بمقتضاه العقاب لمخالفي القوانين إلى السجن المؤبد وغرامات مالية قدرها 500 ألف دينار (الدولار = نحو 2.96 دينار).
لكن المواطنين يقولون إنهم لم يروا أي أثر للجهد الحكومي في مكافحة الغلاء، حيث تسجل الأسعار زيادات تكاد تكون يومية في بعض المواد، بما في ذلك التي تؤطرها الحكومة على غرار الخبز ومعجون الطماطم.
ويعبر مواطنون أدلوا لـ"العربي الجديد" بشهادات عن أن موجة الغلاء التي تعيشها تونس تعدّ الأكثر حدة منذ عقود، مؤكدين تمرّد التجار والأسواق عموما على كل القوانين والضوابط التي تفرضها فرق المراقبة الاقتصادية.
وتقول راضية الجزيري (34 عاما) إن الغلاء في تونس يطاول كل طبقات المجتمع، بما في ذلك الميسورون منهم، مؤكدة أن كلمة "الدنيا شغلت" (التهبت الأسعار) تتردد على كل الألسن، بما في ذلك أصحاب التجار والصناعيون الذين ظلوا لسنوات طويلة في منآى عن تأثيرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بحسب تقديرها.
وتضيف راضية في تصريح لـ"العربي الجديد": "كل المؤشرات تؤكد أن الغلاء مستمر ولا يوجد أي تأثير للضغط الحكومي من أجل كبح الأسعار أو ترشيدها".
ومن أجل ذلك تقول المتحدثة إن طبقة مهمة من التونسيين تتزود بأسلحتها الخاصة لمكافحة جزء من غلاء المعيشة، وذلك بالتقشف أو اقتناء حاجياتها من الأسواق الشعبية الأقل ثمنا.
وتشير المتحدثة إلى أن التونسيين يشاهدون جهود مكافحة الغلاء في نشرات الأخبار الصحافية والبيانات التي تصدر عن الدوائر الحكومية، غير أن الواقع على الأسواق مختلف تماما بحسب قولها.
وخلال شهر إبريل/ نيسان الماضي، واصل معدل التضخم نسقه صعودا إثر بلوغه مستوى 7.5 بالمائة مقابل 7.2 بالمائة في مارس/ آذار و7 بالمائة خلال شهر فبراير/ شباط و6.7 بالمائة في شهر يناير/ كانون الثاني من السنة ذاتها، حسب بيانات لمعهد الإحصاء الحكومي.
وشهدت أسعار المواد الغذائية ارتفاعا بنسبة 8.7 بالمائة، في إبريل الماضي. ويعود ذلك بالأساس إلى ارتفاع أسعار البيض بنسبة 20.4 بالمائة وأسعار الزيوت الغذائية بنسبة 20.4 بالمائة وأسعار الغلال الطازجة بنسبة 19.5 بالمائة وأسعار الخضر الطازجة بنسبة 12 بالمائة وغيرها من السلع.
كما شهدت أسعار الخدمات ارتفاعا بنسبة 4.8 بالمائة، ويعزى ذلك بالأساس إلى ارتفاع أسعار خدمات المطاعم والمقاهي والأنزال بنسبة 7.2 بالمائة وأسعار خدمات الصحة بنسبة 3.4 بالمائة.
وتسعى حكومة تونس إلى تأجيل زيادات جديدة لبعض أسابيع، بينما يصّر مستثمرون في قطاعات غذائية على ضرورة تعديل الأسعار لبعض السلع ومن بينها الألبان والبيض والدجاج من أجل الحد من الخسائر بعد ارتفاع كل مدخلات الإنتاج.
والأسبوع الماضي، قال وزير الفلاحة التونسي إلياس حمزة، إن الحكومة التونسية تعتزم زيادة أسعار مواد غذائية من بينها الحليب والبيض والدواجن، وذلك عقب احتجاجات للفلاحين على ارتفاع أسعار العلف الحيواني جراء الحرب في أوكرانيا.
كذلك أعلنت شركة الكهرباء والغاز الحكومية عن الشروع في اعتماد تعريفة جديدة جرت بمقتضاها الزيادة في سعر الكهرباء بنسبة 12 بالمائة والغاز بنسبة 16 بالمائة.
خلال شهر إبريل/ نيسان الماضي، واصل معدل التضخم نسقه صعودا إثر بلوغه مستوى 7.5 بالمائة مقابل 7.2 بالمائة في مارس/ آذار
ويقول الخبير الاقتصادي خالد النوري، إن الغلاء في تونس أصبح زاحفا وشاملا وجامحا، مؤكدا أن السلطة لا تملك هوامش مناورة للحد منه، غير رفع نسبة الفائدة المديرية من أجل كبح الاستهلاك.
ورجّح النوري في تصريح لـ"العربي الجديد" أن يزيد البنك المركزي التونسي في نسبة الفائدة من أجل محاصرة التضخم، غير أنه اعتبر أن هذه الآلية لن تكون مجدية في ظل ضعف القدرة الاستهلاكية للتونسيين نتيجة فقدان الدخول وتصاعد البطالة.
واعتبر الخبير الاقتصادي أن أزمة التونسيين مالية بالأساس نتيجة ضعف الأجور، وهو ما يجعل وطأة الغلاء مضاعفة بالنسبة إليهم مقارنة بدول أخرى.
ويرى النوري أن تواصل النسق التصاعدي للأسعار يحبط كل المحاولات الرسمية لكبحها، في ظل غياب برنامج لتحفيز الاستثمار وزيادة نسب النمو.
والشهر الماضي، رفعت الحكومة أسعار الوقود بنسبة 5% للمرة الثالثة هذا العام. وقالت وزيرة الصناعة والطاقة نادية القنجي، إن الكهرباء والغاز وغاز البترول المسال والغازوال تستأثر بالجزء الأوفر من منحة الدعم الحكومي.
وأضافت القنجي في تصريح لـ"العربي الجديد" إن استهلاك قوارير غاز البترول المسال بلغ 45.2 مليون قارورة سنة 2021، منها 89 بالمائة موجهة لقطاع السكن كما بلغ استهلاك الغازوال لسنة 2021 حوالي 2 مليون طن منها 66 بالمائة يتم توريدها بدعم بحوالي 1036 مليون دينار خلال سنة 2021، موجهة بالأساس لقطاع النقل بنسبة 77 بالمائة.