لا يملّ مسؤولو الحكومات المصرية المتعاقبة من الحديث منذ عقود عن المشكلة السكانية والخصوبة الإنجابية المرتفعة، إلى حدّ أن اعتبرها بعضهم الجذر النهائي لمشكلات مصر الاقتصادية كافة، أحياناً كنوع من البروباغندا لتبرير ضعف الأداء الذي لا يمكن إنكاره، وأحايين أخرى عن قناعة حقيقية ذات منطلقات مالتوسية.
وبغضّ النظر عما أثبتته الحقائق العلمية من الخلل بهذه الرؤية التبسيطية المباشرة للمشكلة، التي تتجاهل حقيقة أن الخصوبة المرتفعة نتيجة بالأساس، لا سبب، للتخلّف والفقر، حتى وإن ساهمت بإدامتهم ومُفاقمتهم لاحقاً (بما يسبّب ما يبدو كحلقة خبيثة يتبادل فيها المتغيّران التأثير والتأثر)، فيظل المتغيّر الحاسم فيهما، والذي يجب أن يبدأ منه الحل، لكسر الحلقة الخبيثة، هو ظروف التخلّف والفقر.
ومع إقرارنا بما تمارسه معدلات النمو السكاني المرتفعة من ضغوط على الموارد المحدودة في بلد مأزوم كمصر، يظهر الواقع أن هناك جانباً آخر للمسألة، نادراً ما يتناوله الخطاب الرسمي، على أهميته الحاسمة، ليس فقط بمساهمته المُتوقعة في كيفية التعامل مع المشكلة، بل كذلك بتحويلها إلى ميزة بدلاً من أن تكون عبئاً.
الهبة الديمغرافية
هذا الجانب هو "الهبة الديمغرافية" التي سبقنا إليها جنوب شرق آسيا وغيرها من التجارب التنموية الناجحة، والتي يتحوّل فيها العنصر السكاني إلى فرصة تاريخية لنهضة الاقتصادات وصعود المجتمعات، بما توفّره من مزايا عديدة على أصعدة القوة العاملة والادخار والاستثمار وغيرها من روافع تقليدية للنمو.
و"الهبة الديمغرافية" وفقاً لتعريف منظمة الإسكوا، أو "النافذة الديمغرافية" في اصطلاح آخر، هي المرحلة التي يتحوّل فيها الهيكل السكاني للمجتمع باتجاه غلبة السكان في سنّ العمل (15-64 سنة)، بحيث تتجاوز نسبتهم منه نسبة نظرائِهم في سنّ الإعالة (من أطفال تحت 15 ومُسنين فوق 65 سنة)، فتتجاوز نسبتهم على الأقل 55%، مقابل عدم تجاوز نسب الأطفال والمسنين 30% و15% من إجمالي السكان على التوالي، وذلك كحد رياضي لعتبتها أو لنقطة دخولها الأوّلية، التي عندها يميل معدل نمو السكان العاملين لتجاوز معدل نمو السكان المُعالين؛ فيزيد الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط نصيب الفرد منه.
وتأتي الهبة الديمغرافية ضمن المرحلة الثالثة من التحوّل السكاني، عندما يبدأ معدل الإنجاب في الانخفاض باتجاه معدل الإحلال (2.1% طفل لكل امرأة) وتنخفض معه نسبة الأطفال، فيما يُترجم نموهم المرتفع في المرحلة -الثانية- السابقة، إلى سكان بالغين في سنّ العمل، أصبحوا يمثلون غالبية المجتمع، فيما ينخفض حجم الأسرة، ويغلب شكلها النووي المديني الحديث بما يتصل به من تغيّرات اجتماعية وثقافية، بدلاً من الأسرة التقليدية الممتدة وشبه الممتدة، الموروثة عن عهود الزراعة والإقطاع.
تأتي الهبة الديمغرافية ضمن المرحلة الثالثة من التحوّل السكاني، عندما يبدأ معدل الإنجاب في الانخفاض باتجاه معدل الإحلال (2.1% طفل لكل امرأة) وتنخفض معه نسبة الأطفال
ويتضح من وصفها أنها فرصة تاريخية عابرة يصعب تكرارها، تستمر عادةً لمدة جيل واحد بحدود 30 عاماً؛ لكونها جزءاً من صيرورة التحوّل السكاني، الذي عندما يدخل المرحلة الرابعة وما بعدها، تنخفض معه نسبة السكان العاملين، لصالح ارتفاع نسبة المُعالين، لكن هذه المرة من كبار السن، ودونما تعويض موازٍ من الأطفال؛ لتتخذ الأمور مساراً مُعاكساً لمزايا الهبة الديمغرافية.
وقد نشأ عنها مفهوم آخر هو "العائد الديمغرافي"، الذي يعني بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان الزيادة في معدلات الإنتاجية والنمو الاقتصادي الناتجة من هذه التحوّلات في التركيبة العمرية للسكان، وقد قدّرت بعض الدراسات الإمبريقية أن كل زيادة بنسبة 1% في السكان العاملين تسهم بزيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.64%، كذلك ترفع، في تقدير آخر، متوسط دخل الفرد بنسبة 1.46%، وقد لعب هذا العائد دوراً معتبراً في التجربة التنموية لجنوب شرق آسيا خصوصاً، إلى حدّ راوحت التقديرات بمساهمته بما بين 40 و50% من النمو الاقتصادي بها خلال الثلاثة عقود الأخيرة من القرن الماضي؛ بفضل نمو السكان العاملين أسرع من المُعالين بأربع مرات، ومساهمته برفع معدلات الادخار إلى ما بين 30 و45% لدول المنطقة.
وهذه أهم قنوات الأثر الإيجابي للهبة الديمغرافية على النمو، فأولها انخفاض تكلفة عنصر العمل، وبالتالي انخفاض نصيب وحدة الناتج منه وزيادة التنافسية الدولية، بسبب ارتفاع المعروض من العمال، وثانيها ارتفاع معدلات الادخار والاستثمار؛ بسبب انخفاض معدل الإعالة من جهة الأسر، وانخفاض الأعباء المُتصلة بالفئات المُعالة في الموازنة العامة من جهة الدولة، وثالثها ارتفاع الطلب الاستهلاكي وتحوّل وتنوّع هيكله باتجاه سلع ومتطلبات أكثر تقدماً؛ بزيادة نصيب الفرد في الناتج وانخفاض معدل الإعالة، فيما رابعها زيادة الاستثمار في رأس المال البشري؛ بفضل انخفاض حجم الأسر والاتجاه للاهتمام بنوعية الأطفال أكثر من عددهم.
هبة مصر المغبونة!
لكن العائد الديمغرافي الذي تقدّمه الهبة ليس بالمِنحة المجانية المضمونة أوتوماتيكياً دونما فاعلية خاصة واستعداد نوعي من طرف المُستفيد منه، بل يستلزم جاهزية على عدة أصعدة تتصل بمُجمل البناء الاقتصادي والتكوين الاجتماعي؛ كي يُؤتي ثَمَرُه للمجتمع المعني، وإلا انقلبت الهبة وبالاً عليه بعبء سكاني خامل دونما توظيف إيجابي، ينعكس في تدهور اقتصادي واضطرابات اجتماعية وسياسية لا قبل لأيّة دولة بها، وفي هذا الصدد، تشير دراسة لمعهد ويلسون الأميركي إلى أن فشل الطبقة الحاكمة في باكستان في استغلال مرحلة الهبة الديمغرافية كان مما أسهم في انتشار التطرّف الديني فيها في مطلع الألفية، كما لاحظت دراسة أخرى وصول الطفرة الشبابية في مصر، وخصوصاً في سنّ دخول سوق العمل (20-24 سنة)، لذروتها التاريخية عام 2010، قبل ثورة يناير مباشرةً.
الركود الكيفي للتصنيع والتحضّر ينعكس في جمود العمليات الهيكلية والنوعية -ذات الصلة- من اكتمال تحوّل نمط الأسرة وتغيّر منطق الإنجاب وغيرها
وبالنظر في حال مصر، فرغم أنها لم تتجاوز المرحلة الثانية من تحوّلها السكاني بعد، فإنها تقف فعلاً على عتبة الهبة السكانية، بمجتمع شاب بمتوسط عمر سكاني 24 عاماً عام 2020 (مُقارنةً بمتوسط عالمي 30 عاماً)، لكن بمزيج غريب من التردّد في اتجاهات معدلاتها الإنجابية من جهة، وعدم الاستعداد الجاد لقطف الثمار التنموية المُرتقبة من هذه الفرصة الاستثنائية من جهة أخرى.
فأما عن اتجاهاتها الإنجابية، التي تناولنا جانباً منها في مقال سابق، "هل أنجزت مصر تحوّلها السكاني أخيراً؟"، فهي متقلّبة لم تنتقل بعد -كما يتصوّر البعض- للمرحلة الثالثة من التحوّل السكاني، والسبب ارتباطها بالأداء الاقتصادي -ريعي المَنْحى- المتقلّب في مصر، ما ظهر في تحسّن مؤشرات السكان، بانخفاض معدلات الإنجاب والإعالة في تعداد عام 2006، ثم عودتها للتدهور في تعداد عام 2017، فبلغ معدل الإعالة في الأول مستوىً ممتازاً لم يتجاوز 55%، ثم إذا به يرتفع إلى حوالى 62% في الثاني، ما يعطينا صورة متناقضة عن الوضع، تتصل بتقلّب الأداء الاقتصادي -بأبعاده الهيكلية والاجتماعية- أكثر مما تتصل بالعوامل الديمغرافية نفسها.
فديمغرافياً، تقف مصر في التعدادين على عتبة النافذة الديمغرافية فعلياً، بمعدل إعالة يقلّ عن 66%، لكنه يخالف اتجاهه المُفترض بالعودة للارتفاع بهذه الحدّة، بدلاً من اتخاذه اتجاهاً هبوطياً مستقراً، ولو بقدر من التذبذب الطبيعي، يضمن تعميق الهبة الديمغرافية والوصول بها إلى ذروتها، للإفادة الكاملة من عائدها الديمغرافي.
ويكمن سبب ذلك في الجانب الثاني، المُتعلق بضعف الأداء الاقتصادي والاستعداد التنموي، فعودة معدلات الإنجاب للارتفاع إنما تعكس التخلّف النوعي والضعف التأثيري لنمط النمو المصري؛ الذي لا يتمفصل بعمق مع التكوين الاجتماعي، بتجذير التصنيع والتحضّر؛ ما يظهر في ركود العمليتين المركزيتين في كل صيرورة التطوّر الاقتصادي والاجتماعي الحديث، باستقرار الصناعة التحويلية عند نسبة 18% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي، ومثلها ركود المناطق الحضرية عند نسبة 43% فقط من السكان، طوال نصف القرن المنصرم.
فهذا الركود الكيفي للتصنيع والتحضّر ينعكس في جمود العمليات الهيكلية والنوعية -ذات الصلة- من اكتمال تحوّل نمط الأسرة وتغيّر منطق الإنجاب وغيرها؛ فيظهر لنا النمط الذي ناقشناه في المقال السابق سالف الذكر، من استمرار الأنماط الديمغرافية التقليدية، الخاصة بالمرحلة الثانية من التحوّل السكاني، مع تقلّبات عَرضية لتجلّياتها الإنجابية بالتوازي مع التقلّبات السطحية للأوضاع الاقتصادية.
تراتبت معدلات الإعالة في ثلاث درجات، ما بين منخفضة تقلّ عن 60% في ثماني محافظات هي القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس والقليوبية والغربية وأسوان والأقصر
وهو ما تؤكده كذلك البيانات السكانية على مستوى المناطق، حيث تتأخر المناطق الريفية عن الحضرية، وأطراف الحضر عن مراكزه، بما يعكس ذات النمط، ويوضّح سبب التخلّف الديمغرافي على المستوى الكلي والمتوسط العام لمُجمل البلد، فبينما تراوح معدل الإنجاب الكلي وفقاً للمسح السكاني الصحي ما بين 3.1% و3.5% عامي 2005 و2014، نجده لم يتجاوز 2.7 و2.9% في الحضر مقابل 3.4% و3.8% في الريف للعامين على التوالي، وبينما يبلغ السكان في سنّ العمل 65% في المناطق الحضرية، نجدهم يبلغون 60% فقط في المناطق الريفية عن الفترة نفسها تقريباً.
كذلك، تراتبت معدلات الإعالة في ثلاث درجات، ما بين منخفضة تقلّ عن 60% في ثماني محافظات هي القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس والقليوبية والغربية وأسوان والأقصر، ومنخفضة نسبياً تراوح ما بين 60 و66% في إحدى عشرة محافظة، ومرتفعة نسبياً في ثماني محافظات يقع معظمها في الوجه القلبي والمحافظات الحدودية، فيما تفاوتت وفقاً لتعداد عام 2017 ما بين حدّها الأدنى المُبشّر في القاهرة بنسبة 46.37%، والأقصى المُحبط في الفيوم بنسبة 75.53%، لتقف لمُجمل البلد عند 61.53% عند عتبة النافذة تقريباً.
يعكس هذا التفاوت المناطقي تخلّف الأبعاد الكيفية والنوعية للأداء الاقتصادي المصري، فضلاً عن مركزيته وعدم عدالته؛ فضعف التصنيع ومعه التحضّر قد انعكسا في استمرار غلبة الطابع الريفي التقليدي، بما له من سمات اجتماعية وثقافية تسهم في بطء وتيرة التحوّل السكاني، واستمرار الاحتجاز في المرحلة الثانية منه، بل إن ما يبدو من تحسّنات في معدلات الخصوبة والإنجاب لا يعكس تطوّراً في السمات الديمغرافية، بقدر ما يعكس التدهور الشديد في الأوضاع الاقتصادية المباشرة؛ بما لها من آثار على انخفاض معدلات الزواج وتكوين الأسر الجديدة.
هذا كله من جانب أسباب عدم تعمّق الهبة الديمغرافية، أما من جانب سياسات الاستعداد لها لقطف ثمارها، المُتعلقة بتنمية رأس المال المادي بزيادة الاستثمارات الإنتاجية والتنويع القطاعي لخلق فرص عمل، وتعزيز رأس المال البشري بالاهتمام بالتعليم والصحة لرفع الإنتاجية، فللأسف لا نجد من المعطيات ما يشير إلى تحسّنهما.
فالإنتاج الصناعي بحالةِ من الركود، إن لم يكن التراجع، مع الاختلالات الكلية والتشوّهات المؤسسية الأخيرة وضغوط العملة الصعبة وقيود الاستيراد... ما يظهر بوضوح في ضعف الطلب على العمالة الإنتاجية، وغلبة المهن الخدمية كموظّفي التسويق والمبيعات وخدمة العملاء على إعلانات الوظائف، فيما لم يصل الإنفاق العام على بندَي التعليم والصحة لاستحقاقاتهما الدستورية، ما انعكس بوضوح في تدهور مؤشرات القطاعين، الأمر الذي ترجّح أوضاع الموازنة العامة المأزومة بشدة بأعباء فوائد وأقساط الديون لاستمراره في الأجل المنظور على الأقل.
ثمة حاجة عاجلة لمعالجة جذرية للوضع المالي والنقدي المأزوم؛ كي لا يكون قيداً أبدياً على مصر
فإذا كان الطبيعي والمُفترض أن نسعى لإصلاح اقتصادنا ومعالجة مشكلاته المذكورة في الأوقات كافة، فإن بروز هذه الفرصة التاريخية خصوصاً، التي تأتي مرة واحدة لمدة جيل واحد، يضع علينا التزاماً إضافياً بعدم إضاعتها، فهذه فرصة مصر السانحة لعبور عنق الزجاجة الطويل الذي يبدو بلا نهاية منذ السبعينيات، خصوصاً في ظل اتجاهات عامة تدفع إلى إضعاف قبضة النظام العالمي وتفكيك تقسيم العمل الدولي القائم الذي لا تحظي فيه إلا بمركز هامشي بائس، الذي كان تراخيه هو ذات الظرف تقريباً الذي سمح لها سابقاً بأكبر طفرة في صناعتها إبان الحرب العالمية الأولى والكساد العالمي الكبير.
يطرح هذا كذلك الحاجة العاجلة لمعالجة جذرية للوضع المالي والنقدي المأزوم؛ كي لا يكون قيداً أبدياً على مصر؛ فستكون مأساةً تاريخية حقاً أن تقضي مصر أفضل سنوات فرصتها الديمغرافية في سداد ديون لم تُحسِن توظيفها من الأساس، بدلاً من أن تستفيد منها في إنجاز طفرة تنموية تقلها من عثرتها التي طالت.