ليس أسوأ على الشعوب من الفقر كما لا أخطر عليهم من البطالة، فآثار هذين المرضين لا تقتصر على الاقتصاد، بل تطاول البنية المجتمعية لتجر في ما تجر إلى الرذيلة والجريمة، لا سيما بعدما وصل الفقر والبطالة إلى مرتبة الآفات أو الأوبئة الاقتصادية التي لا تزول آثارها بقرار أو تشفى منها الشعوب بالكامل بمسكنات تحسين الدخول ورفع مستوى المعيشة.
خبران مرا الأسبوع الجاري كانا بمثابة جرس إنذار لتركيا، بعدما عاش شعبها لنحو عقدين من الزمن بحبوحة أقرب للرخاء، والتي كانت ربما من الأسباب المهمة إن لم نقل الأهم، بنزول الأتراك إلى الشارع في منتصف يوليو/تموز 2016، ليواجهوا الانقلابيين ويدافعوا عن مكتسباتهم بالحرية والعيش والكريم.
الخبر الأول جاء على لسان وزير المال بحكومة "العدالة والتنمية" نور الدين النبطي، وقد أعلن عن تكفل الحكومة بتسديد ديون الكهرباء الغاز والماء بدلاً عن ستة ملايين تركي من محدودي الدخل، بعد عجزهم عن تسديد الفواتير التي شهدت ارتفاعات مضطردة خلال العام الجاري.
ما يدلل أو يمكن الاستنتاج منه أن من يتقاضى الحد الأدنى للأجور بتركيا بات عاجزاً، رغم رفع الأجور مرتين هذا العام، عن تسديد قيمة الفواتير بعد التضخم الذي اقترب من 79% على أساس سنوي، وارتفاع معدل الأسعار بأكثر من 140% خلال عامين.
أما الخبر الثاني الذي رماه الاتحاد التركي لنقابات العمال أمس، فهو ارتفاع حد الجوع إلى إلى 6.889 آلاف ليرة، وهو مستوى يفوق الحد الأدنى للأجور، رغم كسر العرف التركي هذا العام، ورفع الأجور مرتين.
وهنا لا بد من التمييز بين حد الجوع وحد الفقر، لأن الاتحاد التركي أشار إلى أن حد الفقر يزيد على أربعة أضعاف الحد الأدنى للأجور، في حين لا يزيد الحد الأدنى للأجور عن 5500 ليرة تركية، ووصل حد الفقر إلى 22.442 ليرة.
ما يعني في ما يعني أن كل من يتقاضى الحد الأدنى للأجور تجاوز مرحلة الفقر ودخل مستنقع الجوع والفقر المدقع.
قصارى القول: لم يأت خبر وزير المالية بتسديد قيمة فواتير الفقراء بجديد، لأن الحكومة التركية التي تنازلت، العام الماضي، عن 142 مليار ليرة لمساعدة أصحاب الدخول المنخفضة، عبر تسديد ديون مليون مواطن تركي، تعي أن عدد العاجزين حتى عن تسديد أبسط الالتزامات ستزداد، لأن الليرة التي خسرت في العام الماضي نحو نصف قيمتها ها هي تستمر بالتراجع لتخسر ثلث قيمتها هذا العام.
كل من يتقاضى الحد الأدنى للأجور تجاوز مرحلة الفقر ودخل مستنقع الجوع والفقر المدقع
كما تعي الحكومة التركية أن التضخم الذي قفز لأعلى نسبة، منذ وصول الحزب الحاكم للسلطة عام 2002، أكل زيادة الأجور وحوّل أكثر من 12% من الأتراك إلى فقراء، وعلى الأرجح أن الحكومة تعي أن التدخل المباشر بالسوق، عبر تعاونيات الائتمان الزراعي، لن يكبح جماح الأسعار رغم إخلال التدخل بالنهج الاقتصادي التركي.
وأمام وعي ومعرفة الحكومة ومحاولاتها للمحافظة على مستوى معيشة الأتراك بواقع أزمات دولية بدلت من المقاييس وغيرت من مفاهيم الرفاهية، وأمام أماني الأتراك بدخول ما بعد مئوية تأسيس الجمهورية، وفق ما تسلّفوا من وعود وما يعلقون من آمال. يكمن الاختبار العام المقبل، حينما سترمي تركيا بكل حمولات إنجازاتها للشارع، من نتائج "صفر مشاكل" مع الجوار ومن ثمار اكتشافات الطاقة، ليفصل الصندوق بين القولين.
وقتها، سيتابع حزب العدالة والتنمية مشوار نقله تركيا من إلى، أو ينسف جهود وتنمية ربع قرن، كانت خلاله تركيا تحت الضوء وأمام اختبارات ومحاولات إعاقة، إن لم نقل مؤامرات، قبل أن تتحول لأنموذج يحتذى لعديد من دول المنطقة والعالم الإسلامي.
نهاية القول: ينتظر الأتراك وربما من تهمهم تركيا، العام المقبل بفارغ الصبر والآمال، فكما أن دخول نادي العشرة الكبار ما زال مشروعاً وممكناً، بعد الكشف عن أرقام الصادرات والسياحة ونمو الإنتاج الصناعي وكنوز ما تحت الأرض، من طاقة ومعادن ثمينة، أيضاً تآكل الجهود وتبدل الحال، بعد زحف الفقر وتراجع مستوى المعيشة، ربما بات تحدياً إن لم نقل واقعاً، بواقع تلقف المعارضة التركية تفاصيله عبر نبض الشارع والعزف على تراجع دخله ومستوى معيشته، من دون التطرق إلى الوضع الدولي وما يشهده حتى الكبار بالعالم من أزمات وتضخم أسعار وتهديد بركود قد يكون الأكبر.
لتأتي الوعود التي سماها الرئيس التركي أمس، بالمنعكسات الإيجابية للسياسات الاقتصادية، الفيصل في تحديد ملامح تركيا المقبلة وعلى أي الجوانب ستميل بعد مئوية تأسيس الجمهورية والانتخابات الرئاسية.