يتواصل الصراع بين المصارف وصناديق الاستثمار الغربية الباحثة عن العائد الكبير من السوق التركية، وبين استراتيجية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الرامية إلى التوسع الاقتصادي وتحقيق نمو قوي وسط استقرار سعر الليرة وخفض كل من كلف الاستدانة ومعدل التضخم إلى نسبة 5%.
وبينما تضغط المصارف الغربية على الليرة التركية عبر بيعها والهروب من السوق التركية لإجبار الرئيس أردوغان على العودة لسعر الفائدة المرتفع، يراهن الرئيس التركي على جاذبية السوق المحلية والربحية اللتين ستعيدان المستثمرين إلى تركيا وبنسبة فائدة منخفضة.
وحتى الآن، تراهن بنوك الاستثمار الغربية على تراجع أكبر لليرة التركية خلال العامين الجاري والمقبل. في هذا الصدد، يتوقع مصرف "غولد مان ساكس" الاستثماري الأميركي تراجع العملة التركية بنسبة 15% إلى 9.75 ليرات مقابل الدولار خلال العام المقبل.
وحسب بيانات السوق التركية التي نشرتها وكالة الأناضول أمس الأربعاء، تراجعت العملة التركية إلى 8.35 ليرات مقابل الدولار.
من بين أدوات الضغط التي تستخدمها المصارف الغربية لخفض سعر الليرة إثارة الشكوك حول نوايا تركيا وربما اضطرارها لطلب الدعم من صندوق النقد الدولي
ومن بين أدوات الضغط التي تستخدمها المصارف الغربية إثارة الشكوك حول نوايا تركيا وربما اضطرارها لطلب الدعم من صندوق النقد الدولي، وفقاً لما ذكرته وكالة بلومبيرغ.
إذ على الرغم من تأكيد محافظ البنك المركزي التركي الجديد، شهاب كافجي أوغلو، على التزام تركيا بحرية السوق، يثير بعض المصارف تكهنات حول أن الرئيس أردوغان ربما يتدخل في السوق خلال الفترة المقبلة، ويفرض قيوداً على حركة رأس المال حتى يوقف هروب العملات الصعبة من البلاد، وهو ما تنفيه مصادر رسمية.
وهذه التكهنات بنيت على أساس أن بعض مديري الصناديق الاستثمارية في خارج تركيا تواجههم صعوبات في عملية "سواب"، أي العقود التبادلية المستقبلية لليرة مقابل الدولار.
كما أثيرت كذلك تكهنات حول احتمال لجوء تركيا إلى صندوق النقد الدولي لتعزيز احتياطات النقد الأجنبي التي ضربت في الشهور الماضية.
وقبل نحو ثلاثة أسابيع، أكد أردوغان في مؤتمر فرعي لحزب العدالة والتنمية أن بلاده لا تدين لصندوق النقد الدولي "ولو بفلس واحد"، لافتاً إلى أن الاحتياطي الحالي للمركزي التركي يفوق 95 مليار دولار.
على الصعيد الداخلي، يدور خلاف رئيسي بين أردوغان وفريق الفائدة المرتفعة على الليرة الذي يقوده المحافظ السابق ناجي آغبال والرئيس التنفيذي للبورصة التركية وبعض مديري المصارف التركية حول استراتيجية النمو الاقتصادي.
إذ بينما يرى الرئيس أردوغان أن تركيا تستطيع تشديد السياسة النقدية دون أن تخسر المستثمرين الأجانب في وقت تبحث المصارف الغربية عن فرصة استثمار خاصة وأن لديها سيولة ضخمة متكدسة تقدر بأكثر من 5 تريليونات دولار، من بينها 2.3 تريليون دولار لدى المصارف الأميركية، جمعتها من عمليات التحفيز المالي والنقدي خلال الـ 12 شهراً الماضية، يرى فريق آغبال أن رفع الفائدة ضروري لجذب المستثمرين الأجانب.
وحسب خبراء، يستند منطق أردوغان في تشديد السياسة النقدية التي أدت إلى إقالته قبل أيام محافظ البنك المركزي ناجي آغبال إلى أربعة عوامل رئيسية، وهي: أن الفائدة العالمية منخفضة جداً في الوقت الراهن وتقارب الصفر في الولايات المتحدة وأقل من صفر في أوروبا واليابان، بينما الفائدة في بلاده مرتفعة جداً وبلغت 19%.
ثانياً: أن تركيا واحة استثمارية آمنة في محيط مضطرب بمنطقة الشرق الأوسط، أي أنها الدولة شبه الوحيدة الكبرى المستقرة سياسياً في المنطقة، وبالتالي ستضطر المصارف الغربية للاستثمار في تركيا بنسبة فائدة أقل كثيراً من نسبة 19% الحالية.
وثالثاً فإن الفائدة المرتفعة جداً تواصل إرهاق الاقتصاد التركي الذي يعاني من مديونية أجنبية مرتفعة وتتزايد خدمة الدين الخارجي تبعاً لارتفاع نسبة الفائدة.
ورابعاً، إن الاقتصاد التركي يواصل جذب المستثمرين الأثرياء من المنطقة العربية ودول الخليج، وبالتالي فإن تدفق هذه الاستثمارات سيعوض عن التدفقات الأجنبية على المدى القصير، وأن البنوك الغربية ستعود للسوق لاحقاً.
وذلك إضافة إلى العائدات المتوقعة من الغاز الطبيعي المكتشف حديثاً واحتمال العودة القوية للسياحة إلى تركيا في أعقاب نهاية جائحة كورونا. وتعد السياحة من أهم مداخيل العملات الصعبة للبلاد.
في المقابل، إن المصارف والصناديق الغربية ترغب في الفائدة المرتفعة التي تحقق لها أكبر عائد من السوق الوحيدة الكبيرة المستقرة في المنطقة.
وظلت الليرة التركية ولفترة طويلة من بين العملات "الحاملة للتجارة" في سوق صرف العملات الناشئة.
ولإجبار الحكومة التركية على العودة إلى سعر الفائدة المرتفع تعمل المصارف الغربية للضغط على الحكومة التركية عبر وسيلتين، وهما بيع الليرة التركية والهروب من الأصول التركية من السندات الحكومية وسندات الشركات وسوق الأسهم في إسطنبول.
ويساعد المصارفَ الغربية في هذه الضغوط ارتفاعُ سعر الدولار وارتفاعُ العائد على سندات الخزينة الأميركية لأجل 10 سنوات، وتوقعات انتعاش الاقتصاد الأميركي خلال الصيف المقبل. وهذه العوامل تعيد الجاذبية للاستثمار في السوق الأميركية والهروب من الأسواق الناشئة.
ولاحظ خبراء أن الحكومة التركية أنفقت نحو 100 مليار دولار من احتياطاتها الأجنبية لدعم صرف الليرة ورفع سعرها بنسبة 18% منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وهي فترة الشهور الأربعة التي قضاها المحافظ ناجي آغبال في المنصب.
وفي المقابل، لم تتجاوز التدفقات الأجنبية الصافية في سوق السندات والأسهم التركية خلال فترة آغبال 4.7 مليارات دولار.
كما يلاحظ أن أغبال رفع الفائدة على الليرة بنسبة 8.75% من مستويات فوق 10% إلى 19%. وهذا يمثل ارتفاعاً جنونياً في الفائدة التركية يقترب من مضاعفتها. وبينما لم يجذب هذا الارتفاع الجنوني استثمارات أجنبية تذكر للاقتصاد التركي، أرهقت الفائدة المرتفعة الاحتياطات الأجنبية للبنك المركزي التركي من ناحيتين، من ناحية المليارات التي ضخها المركزي لدعم العملة، ومن ناحية تزايد كلفة خدمة الدين الخارجي التركي المقدر بنحو 435 مليار دولار.
وحسب بيانات معهد التمويل الدولي، بلغ حجم الدين الخارجي الذي حل أجله في عام 2020 نحو 189 مليار دولار، وهو ما يمثل نسبة 43.4% من إجمالي الدين التركي.
ويشير خبراء إلى أن تركيا ربما ستحتاج إلى نحو 200 مليار دولار خلال العام الجاري 2021 لتسديد خدمة الدين الخارجي، إضافة إلى أن عجز الحساب الجاري يقدر أن يرتفع إلى 15 مليار دولار في نهاية العام الجاري.
وبالتالي، فإن الفائدة المرتفعة جداً ربما تشكل تحدياً كبيراً لخطة الرئيس رجب طيب أردوغان الرامية إلى توسيع الاقتصاد التركي ونقله إلى مصاف الاقتصادات المتقدمة خلال العقد الجاري.
وعمل المحافظ ناجي آغبال خلال فترته لرفع سعر صرف الليرة عبر إغراق السوق بالدولارات، وهو ما يمكن أن يقود لاحقاً إلى تحديات للاقتصاد التركي، كما أن الفائدة المرتفعة ربما ستقود على المدى الطويل إلى ارتفاع كلف خدمة الدين الخارجي وإغراق البلاد في المديونية التي سبق أن أدت إلى إفلاس الاقتصاد التركي قبل عقدين، أي في بداية الألفية الثالثة.
سعر الفائدة المرتفعة جداً ربما تشكل تحدياً كبيراً لخطة أردوغان الرامية إلى توسيع الاقتصاد التركي ونقله إلى مصاف الاقتصادات المتقدمة خلال العقد الجاري
وتعمل تركيا على تقليل استخدامها للدولار عبر الاتفاقات العديدة التي وقعتها مع دول أفريقية ومع روسيا والصين للتسوية عبر المقايضة وكذلك دعم الصادرات البالغة إيراداتها نحو 180 مليار دولار في العام 2019، علما بأن تلك الإيرادات تتواصل رغم جائحة كورونا، حيث سجلت الصادرات التركية، زيادة بنسبة 9.6 بالمائة في فبراير/ شباط 2021 مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي وبلغت عائداتها 16 مليارا و9 ملايين دولار.
كما أعلنت هيئة الإحصاء التركية، أمس الأربعاء، ارتفاع الصادرات التركية خلال أول شهرين من العام 2021، بنسبة 5.9 بالمائة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، محققة عائدات بقيمة 31 ملياراً و38 مليون دولار.
وبالتالي، فإن عودة السياحة، في حال السيطرة على جائحة كورونا وارتفاع الصادرات وربما تقليص فاتورة الطاقة، ربما ستكون من العوامل الداعمة لليرة التركية رغم الرهان على تراجعها من قبل المصارف الغربية.