حسب الخرافات اليونانية، باندورا (Pandora) هي فتاة فضولية، يطلب منها أن تفتح كل الصناديق، ما عدا واحدا صغيرا. ولكنها تفشل في مقاومة فضولها فتفتحه، وإذا فيه كل شرور العالم، وهكذا ينتشر الشر بمظاهره المختلفة وخطاياه القاتلة في العالم كله. ولهذا، عندما يثير أحد مشكلة تُحْدث ضجة كبيرة، يشار إليه بأنه قد فتح صندوق باندورا (Pandora’s Box).
وقد فوجئنا قبل أيام بتحقيق استقصائي، ساهم فيه نحو 600 صحافي، بإشراف الاتحاد الدولي للصحافة الاستقصائية "ICIJ ينشر معلوماتٍ وبيانات ووثائق عن استخدام قادة دول حاليين وسابقين و300 سياسي من 92 دولة ملاذات ضريبية من أجل شراء مساكن وعقارات، أو لإيداع أموال في حسابات سرية بأسمائهم الخاصة، وقد أحدثت تلك المعلومات التي حملت أسم "وثائق باندورا" أو "تسريبات باندورا" ضجة كبيرة في أنحاء العالم واستخدمت لغايات سياسية.
أحدثت تلك المعلومات التي حملت أسم "وثائق باندورا" أو "تسريبات باندورا" ضجة كبيرة في أنحاء العالم واستخدمت لغايات سياسية
وفي العام 2000، وبناء على طلب من مجموعة العشرين (G20)، أنشئ "المنبر العالمي للشفافية وتبادل المعلومات حول الأغراض الضريبية". وقد زادت عضوية الدول المشاركة فيه حتى وصلت حالياً إلى 160 دولة أو منطقة ذات استقلال أو حكم ذاتي في العالم.
ومن الواضح أن الهدف الأساسي من تأسيس هذا المنبر تبادل المعلومات الضريبية، من أجل مساعدة الدول الأعضاء في إجراء التدقيقات الضريبية المطلوبة للشركات والأفراد الذين يتهرّبون من سداد الضريبة (evaders)، أو الذين يجدون الوسائل لتجنّبها (tax avoiders).
وفي عام 2015، وبتكليف من منظمة OECD (منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية)، وأعضاؤها 37 دولة أوروبية، وأميركية، وباسيفيكية، تشكل في مجموعها حوالي 80% من تجارة العالم واستثماراته، وضعت مجموعة العشرين إطارا عاما من أجل إغلاق الطرق أمام التهرّب والتجنب الضريبيين. وقد قُدرت الضرائب التي تضيع على الدول سنوياً بين 100-240 مليار دولار.
وكان صندوق النقد الدولي قد قال في وقت سابق إن الحكومات حول العالم تخسر ما يصل إلى 600 مليار دولار من أموال الضرائب نتيجة استخدام الملاذات الضريبية.
وبحسب الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين فإن التقديرات تشير إلى مبالغ تتراوح بين 5.6 تريليونات و32 تريليون دولار، هو حجم الأموال المخبأة في ملاذات ضريبية.
ولعل أهم وسيلة أمام التهرّب الضريبي وضع الأموال في "ملاذات آمنة" (safe havens)، بعيداً عن أعين رقباء الضريبة في الدول التي تهرُب منها هذه الأموال.
الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين: التقديرات تشير إلى مبالغ تتراوح بين 5.6 و32 تريليون دولار، هو حجم الأموال المخبأة في ملاذات ضريبية
ومن أهم شروط هذه الملاذات الآمنة اثنان: السرّية بالكتمان وعدم الإفصاح عن أسماء الأشخاص والشركات أصحاب الودائع السرّية، وسهولة وصول أصحاب الأموال إلى أموالهم متى احتاجوها.
وبناء على هذين الشرطين، نشر مؤشر السرّية العالمي (FSI أو Financial Secrecy Index) أن أهم عشرين بلداً تنطبق عليها هذه الشروط هي حسب أهميتها منها: جزر الكيمان، الولايات المتحدة، سويسرا، هونغ كونغ، سنغافورة، لوكسمبورغ، اليابان، هولندا، الجزر العذراء البريطانية، الإمارات، جيرنزي، المملكة المتحدة، تايوان، ألمانيا، بنما، جيرسي، تايلاند، مالطا، كندا.
وقد أغفلت هذه القائمة ذكر إسرائيل. وهذا لا يعني أن أبناء بعض هذه الدول هم الذين يضعون أموالهم في بلدانهم، بل إن كثيرين يلجؤون لهذه الدول من دولٍ أخرى، ودول الخليج تشكل ملاذاً آمناً لعرب آخرين، أو إيرانيين، أو هنود أو صينيين أو غيرهم.
أما مصادر الأموال فتأتي بالطبع من مسؤولين في بعض الدول لأغراضٍ مختلفة، لتمويل عملياتٍ لا تدرج ضمن موازنات الدول، وهذه ليست غير شرعية بالضرورة، وتلجأ إليها عادة دول كثيرة، لتمويل عمليات خارجية سرّية، أو أن هذه الأموال تأتي من مصادر غير مشروعة، كالرشوة وغيرها، والتي تهرُب خارج الدولة، لأن أصحابها لا يستطيعون إنفاقها في الداخل، خوفاً من التعرّض للسؤال "من أين لك هذا؟". وقد يأتي المصدر الثالث من أموال العصابات والمنظمات الإرهابية لتبييض هذه الأموال، أو لاستخدامها في شراء السلاح وتمويل الإرهاب.
أما على مستوى الشركات العالمية المشروعة والكبيرة، فقد استفادت هذه الشركات ذات النشاطات العالمية من تقسيم العمل الدولي في توزيع مراكز نشاطاتها في العالم، وتخفي أرباحها عن أعين السائلين في ملاذات آمنة.
وقد اعترف رئيس شركة "أبل" الأميركية، والتي بلغت أرباحها عام 2018 ما يساوي أرباح شركة جنرال موتورز الأميركية للسيارات، ولكن الثانية دفعت حوالي 180 مليار دولار ضرائب، بينما دفعت الأولى 13 مليارا فقط.
وقد رفض المدير التنفيذي لشركة "أبل" الاتهامات الموجهة إليه بأنه يتهرّب من الضرائب، وأصرّ على أنه يستفيد من القوانين المطبقة في الولايات المتحدة، ومن اتفاقيات عدم الازدواج الضريبي، ما يجعل كل هذه الممارسات مشروعةً وغير مخالفة للقانون.
اعترف رئيس "أبل"، البالغ أرباحها عام 2018 ما يساوي أرباح جنرال موتورز للسيارات، لكن الثانية دفعت نحو 180 مليار دولار ضرائب، بينما دفعت الأولى 13 مليارا فقط
ولذلك طلبت مجموعة العشرين من سكرتارية منظمة التعاون والتنمية الدولية أن تضع إطاراً (BEPS) أو (Base Erosion and Profit Shifting)، أو ما سمّي بالعربية "تآكل القاعدة وتحويل الأرباح"، حيث وضعت مجموعة شروط على الدول الأعضاء، منها أن تلتزم على الأقل بالحدود الدنيا للسلوك، لكي تَحُول دون تكوين قواعد فيها، من أجل تحويل الأرباح ونقلها من مكان إلى آخر لتقليل المدفوعات الضريبية. وقد بلغ عدد الأعضاء الموقعين على هذا الإطار حوالي 140دولة.
لكن مجموعة دول الـ OECD، والأغنى في العالم، لم تكتف بذلك، بل اتفقت فيما بينها على أن يكون الحد الأدنى للضرائب المدفوعة من الشركات العالمية للدول التي تملكها هو 15%، وهذا سوف يؤدي إلى زيادة حصيلة الضرائب بمقادير تقديرية، قد تصل إلى 50-80 مليار دولار سنوياً، علماً أن تطبيق هذا القرار لن يبدأ قبل عام 2023.
وقد عاد إطار "تآكل القاعدة وتحويل الأرباح" ليبحث الآن في الإجراءات المطلوب تنفيذها عندما تتحوّل المعاملات بالكامل إلى الرقمنة (digitalization). فلننتظر حتى نرى من سينتصر في معركة الضرائب، أصحاب المصالح أم الحكومات؟