في الوقت الذي ينكمش فيه الاقتصاد المصري عائداً لحجمه الطبيعي القائم على قدراته الإنتاجية المحلية، بتراجع الحقن الخارجية المُصطنعة التي اعتمد عليها كثيراً طوال نصف قرن، وفي سياق أزمة اقتصادية عالمية تتفاقم رويدًا رويدًا، لا يزال بعض السماسرة وأصحاب المصالح بسوق العقارات يعطون نصائح لا تخلو من الغرض بالاستمرار في الاستثمار في القطاع العقاري (لا مجرد الشراء للاستخدام الشخصي).
وينطلق هؤلاء من مغالطتين، أولاهما المقارنة بالنقد الورقي الذي يمثل أسوأ الاختيارات بطبيعة الحال كونه ليس استثمارًا من الأساس، وثانيتهما الادعاء بأن محدودية الائتمان العقاري في الاقتصاد المصري تعني بالضرورة عدم وجود حالة الفقاعة التي يتبعها تراجع أسعار العقارات وانخفاض ربحية القطاع.
لكن الحقيقة أنه بالعودة لأبسط أساسيات الاقتصاد، فإن قيمة الأصول بأي اقتصاد هي دالة في حجمهِ، بما يشمله ذلك من مستويات دخول حالية وإمكانات نمو مُتوقعة، فالقيمة في النهاية ليست جوهرًا أنطولوجيًا مُنزّلاً من السماء، بل تعبير رمزي، إما عن توافق اجتماعي حول قصة أو معنى جوهرهما التفرّد والندرة كما هو حال بعض المعادن النفيسة والمنقولات الأثرية والأعمال الفنية الاستثنائية وما شابه من سلع غير نمطية، وهذه حالة عَرضية بمفاهيم الاقتصاد، أو عن التدفقات المُتوقّعة من الأصل المعني طوال فترة صلاحيته للاستخدام، الذي لا قيمة له على الإطلاق بدونه، وهذه هي الحالة الأساسية لقيم السلع النمطية، التي تمثل غالب السلع.
فإذا كان الاقتصاد بمُجمله بسبيله للانكماش، بما يشمله ذلك من انخفاض في مستويات الدخول وعدد وأحجام المعاملات، ومن ثم الطلب الكلي ينخفض بشقيه الاستهلاكي والاستثماري على كافة أنواع الأصول بكافة أشكال استخدامها، وإن كان بنسب مختلفة على أعيانها بالطبع، فلا مفر من انخفاض القيم الحقيقية لأغلب هذه الأصول (فتظل هناك استثناءات عَرضية لظروف عرضية أو مزايا خاصة بها)، سواء دخل عنصر الائتمان في المعادلة أو لم يدخل، فلا يغيّر غيابه القانونية الأساسية، بل يقلل نطاق التذبذب صعودًا وهبوطًا لا غير.
فكما قلّل غيابه من تضخّم الأسعار لمستويات أعلى في مرحلة الرواج، فإنه فقط يجعل انخفاضها أقل نسبيًا في مرحلة الركود، فمنطق دورة الأسعار قائم وفعّال ما دامت الدورة الاقتصادية إحدى حقائق الحياة، سواء اتخذ شكل فقاعة جنونية كما يحدث في الاقتصادات الأكثر تقدمًا والأسواق المالية الأشد عمقًا، أو تورّم قطاعي لا بد أن يُصفّى في مرحلة ما كما هو الحال في الدورات التقليدية للاقتصادات الأقل تقدمًا، أو التي تعاني انحرافًا قطاعيًا خاصًا كحال الاقتصاد المصري.
ركود حتمي للأسعار
ويعني هذا حتمية انخفاض أو - على الأقل - ركود الأسعار الفعلية للأصول في مرحلة الانكماش هذه، أي القيم الحقيقية بعد اقتطاع نسب التضخّم الفعلية، سواء كان ذلك بانخفاض الأسعار الاسمية في حالتيّ التضخم البسيط والمعتدل، أو ارتفاعها بنسب أقل من نسب التضخّم في حالاته المرتفعة (وهى الحالة الغالبة).
فالخلاصة أنه حتى وإن لم يشهد الاقتصاد المصري فقاعة عقارية بمعناها الأميركي التقليدي، لمحدودية دور الائتمان المصرفي في سوق العقار المصري، فإن الأمر لا ينفي حقيقة تعرّض هذا الاقتصاد لحالة تورّم عقاري لأسباب وظروف مختلفة عن الحالة الأميركية، تجعل انكماش أو ركود أسعار العقارات في الأعوام القادمة حتميًا من جهة، كما تجعله عمومًا نعمة متأخرة وفرصة ثمينة ينتظرها ذلك الاقتصاد منذ عقود من ناحية أخرى.
وقد بدأت بوادر ذلك الانكماش تظهر أولاً في تراجع المبيعات وتطاول فترات التقسيط والسداد وتباطؤ وتيرة ارتفاعات الأسعار، بل وانخفاض أغلب الأسعار فعليًا حال تقويمها بالدولار، بل إن مؤشر قطاع العقارات في البورصة المصرية (حسب بيانات غير رسمية لموقع اقتصاد الشرق وكيل منصة بلومبيرغ)، والذي يصلح مؤشرًا استدلاليًا لا غير على التوقعات المستقبلية للقطاع والاقتصاد، قد انخفض من أكثر من 2569 نقطة في أواخر الربع الأول من عام 2018، إلى 933 نقطة فقط في أواخر الربع الأول من العام الحالي، 2023، بما يمثل انخفاضًا بنسبة 64% تقريبًا خلال خمسة أعوام.
وما يؤكد الدلالة هو استمرار ذلك الانخفاض رغم معاودة المؤشر العام للبورصة الارتفاع أخيرًا، مع التعويم، لما يقارب قمته التاريخية عام 2018 على أساس مؤشر "EGX30" الرئيسي في البورصة، بل وتجاوزها بالارتفاع من حوالي 3100 إلى 4232 خلال الفترة نفسها (2018-2023)، على أساس مؤشر "EGX100" الأوسع نطاقاً والأكثر مصداقية، فهو إذن ليس مجرد انخفاض طبيعي ضمن انخفاض عام للمؤشر، بل انخفاض نوعي خاص بالقطاع نفسه، لحدّ تراجع وزنه النسبي داخل المؤشر العام.
أقل من فقاعة، لكن أعقد وأسوأ!
لكن لا يمكن اختزال مصدر الانكماش المُتوقع للقطاع العقاري المصري في السنوات القادمة في الانكماش الدوري الطبيعي لأي اقتصاد، والمُتوقع خصوصًا ضمن الأزمة الاقتصادية التي تمثل بدورها مرحلة ضمن دورة الاقتصاد العالمي نفسه، بل إن المصدر الأكبر والحقيقي لذلك الانكماش المُتوقع للقطاع يأتي من مصدرين متداخلين يتصلان بالتكوين الهيكلي للاقتصاد المصري ونمط نموه عبر النصف قرن الماضي، وهو ما أسهبنا في الحديث بشأنه في مقالات سابقة.
فمن جهة، الاقتصاد المصري بمجموعه مُنتفخ بحقن تدفقات خارجية متراكمة، بسبيلها للتراجع حاليًا، ويمثل الانخفاض المستمر للعملة الوطنية أحد مظاهره، ومن جهة أخرى، قطاع العقارات نفسه مُتضخّم لأكبر من حجمه الطبيعي ضمن الاقتصاد، حيث يمثل 25% من الناتج الإجمالي المصري في الوقت الذي يدور متوسطه العالمي حوال 15% منه فقط.
هذا التضخم القطاعي يتجسّد في ما يكشفه تعداد 2017 من زيادة أعداد المباني بكافة أنواعها بنسبة 45.1% مقارنةً بتعداد 2006، بما يتجاوز نسبة النمو السكاني خلال الفترة، ويتجاوز قطعًا احتياجاته الإسكانية، ليسجل قطاعا التشييد والبناء والأنشطة العقارية بمجملهما نموًا انفجاريًا بلغ 225% و952% على التوالي خلال فترة 2010-2017.
كما بلغ عدد الوحدات العقارية غير المشغولة في مصر 12.5 مليون وحدة سكنية، وهو ما مثل حوالي 29.1% من إجمالي عدد الوحدات عام 2019، بل ووصلت تقديرات الوحدات السكنية العاطلة بالمدن الجديدة وحدها لما يوازي 2.5 تريليون جنيه.
ويرتبط هذا التضخّم بخروج القطاع عن دوره الوظيفي، ففي سياق من التضخم المُزمن والانحياز القطاعي، المدفوعين معًا بانحراف ريعي وسياسات حكومية، نشط الميل الاكتنازي في الاقتصاد، ليخلق حالة من الشلل لآليات السوق، حيث انحرفت دينامية عمل القطاع العقاري عن تحقيق وظيفته الأساسية في إشباع حاجة الإسكان.
الأمر الذي يمكن إرجاعه لعدد من الأسباب، أهمها: أولاً تحوّل منتجات القطاع عن غرضها الاستهلاكي الأساسي لتصبح أدوات تحوّط ضد التضخّم المُزمن الذي تعانيه مصر، ما جعلها مخزن القيمة الأساسي فيها.
ثانيًا وكنتيجة لأولاً، وبالترافق مع أسباب أخرى، أصبح القطاع الوجهة الاستثمارية الأولى، خاصًة للفئات مرتفعة الدخل ذات الفوائض المالية الكبيرة الراكدة، بفضل ما يوفّره من هوامش ربحية عالية مع مخاطر شبه معدومة بفضل قيمته الاكتنازية، تلك الهوامش المترافقة مع، والناتجة عن، التشابك منذ أواسط السبعينيات بين رؤوس الأموال العامة والخاصة في القطاع، وتضخّم حلقات الوساطة داخل مراحله الإنتاجية.
الميل إلى الاكتناز
بل إن هذا الميل الاكتنازي، مترافقًا مع إلغاء سياسة التراخيص النوعية التي تحدد مستويات الإسكان (تحت ضغط لوبي العقارات بالطبع)، مع هيمنة القطاع الخاص على حوالي 75% من استثمارات القطاع كمتوسط عام، والهوامش الربحية الأعلى بطبيعة الحال في مستويات الإسكان الفاخر.
أدت هذه العوامل مجتمعةً إلى اختلال في هيكل العرض والطلب بالقطاع، حيث فائض غير مُباع من وحدات الإسكان الفاخر إلى جانب العرض، مقابل فائض طلب غير مُشبع من الإسكان الاقتصادي والمتوسط إلى جانب الطلب، في حالة من الشلل الغريب لآليات التصفية المتبادلة المُفترضة بين فوائض العرض والطلب في السوق الحرة، فقط لتحوّل منتجات القطاع عن غرضها الإسكاني إلى أغراض الاكتناز والمُضاربة.
وهو ما رتّب سوء تخصيص للموارد، وتورّما غير عقلاني للقطاع، وانخفاضا لمستوى المعيشة مرتين، مرة بعدم استغلال الموارد داخل القطاع بأفضل توزيع ممكن نوعيًا، ومن ثم تغطية حاجات الإسكان للطبقات الوسطى والدنيا من جهة، ومرة أخرى بتحويل موارد أعلى من الضروري للقطاع، على حساب قطاعات أخرى كانت أولى نوعيًا، بصافي منافع اجتماعية حدّية بديلة أعلى كميًّا، وذات مضاعفات تشغيلية واستثمارية أعمق إنمائيًا.
وهكذا، فربما كان ما يعانيه الاقتصاد المصري، وضمنه قطاعه العقاري، ليس فقاعةً بالمعنى المالي الائتماني الأميركي، لكنه في الواقع شيء أعقد وأسوأ بما يليق باقتصاد متخلّف لم يحلّ بعض إشكالاته التنموية واستحقاقاته التاريخية الأساسية.
ربما فضيلته الوحيدة عدم الانفجار المفاجئ شأن الانهيارات الأميركية التقليدية، لكنه يظل: (أولاً) أعقد، كونه نتاج اختلالات هيكلية وإشكالات تطوّرية في صلب تكوين وطريقة عمل الاقتصاد، وليس مجرد انتفاخ ائتماني يستكمل دورة حياته وينفجر بخسائر للبعض كثر أو قلّ، بل دينامية تشويه لكفاءة التخصيص الخارجية لكامل الاقتصاد، تُهدر موارده الشحيحة بعيدًا عن أكثر الاستخدامات إنتاجية وتنموية، حدّ تحوّل ذلك القطاع لثقب أسود لامتصاص الفائض الاقتصادي لتجميده في أحد أكثر القطاعات محدودية في دوراته التشغيلية وآثاره التنموية.
فيما هو (ثانيًا) أسوأ، كونه لا يموت بانهيار سريع، تمكن معالجته بضبط سياسات الائتمان وببعض حِزم الإنقاذ المالي، بل يقضي بتعفّن بطيء وموات طويل لقدر هائل من الموارد التي ستعلوها أطنان من الأتربة وشبكات العنكبوت، يستلزم الأمر سنوات من النمو المتواصل لتجاوز إهدارها من ناحية، وللاستفادة منها بأي طريقة لاحقًا من ناحية أخرى، ناهيك بالطبع، قبل وكشرط لكل ذلك، عن سياسات هيكلية ضرورية، أعقد بكثير، لإعادة ضبط مُجمل بنية ومنطق عمل الاقتصاد ابتداءً.
المنحة في باطن المحنة
ورغم ما سيجلبه هذا الانكماش الكلي والقطاعي من خسائر على المجتمع، بتراجع قيم وتصفية شركات وبطالة هيكلية، فإنه يمثل إصلاحًا لوضع مُختل منذ البداية، نتج عن الانحراف الريعي المدفوع بالمرض الذي غذّى أغلب دول المنطقة على أجنحة الطفرة النفطية في السبعينيات، والذي يمثل تورّم القطاع العقاري، والقطاعات غير التجارية أو التصديرية عمومًا، أحد أبرز نتائجه وأوضح أعراضه.
والذي تعزّز في السياق المصري خصوصًا بسياسة استثمارات عامة مُنحازة قطاعيًا، سواء بفعل استراتيجية التنمية المُرتكزة على البنية التحتية حصرًا، أو بسبب تحوّل الدولة نفسها لتاجر أراض وسمسار عقارات يتربّح من نفخ ذلك الورم الضار، بما وصل لحدّ تمويل مشروعات استعراضية بقروض خارجية.
فلعلّها فرصة مصر لمراجعة وتغيير ذلك المسار اللاتنموي من الأساس، الذي كما ارتكن في استمراره لنمو قطاع العقارات، فسيبدأ تراجعه منطقيًا بانكماش القطاع ذاته غير المأسوف عليه.