تلقت فرنسا ضربة جديدة في أفريقيا بعد صفعة انقلاب النيجر، حيث نفذ ضباط في الجيش الغابوني فجر أمس الأربعاء انقلاباً واحتجزوا الرئيس على بونغو، الذي يُعَدّ من أهم حلفاء فرنسا في أفريقيا. والغابون دولة صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 2.14 مليون شخص، ولكنها منتج أفريقي رئيسي للنفط وعضو في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، حيث تنتج نحو 181 ألف برميل يومياً، كذلك لديها احتياطيات نفطية مؤكَّدة تُقدَّر بمليارَي برميل، حسب بيانات "أوبك".
ومن المحتمل أن يؤدي الانقلاب، الذي لا يبدو أنه يؤثر حتى الآن في إنتاج النفط، إلى رفع أسعار النفط الخام بنسبة تقلّ عن 1%، التي وجدت دعماً آخر في تزايد المخاوف من نقص الإمدادات الأميركية بسبب إعصار إداليا الذي يضرب ولاية فلوريدا حالياً.
وعلى الرغم من أن كمية النفط المنتجة في الغابون ليست كبيرة، وقد تكون بحد ذاتها غير مؤثرة في أسواق النفط العالمية التي تستهلك يومياً أكثر من مائة مليون برميل، لكنها ستضيف عاملاً جديداً إلى الاضطرابات الأخرى التي تعاني منها الدول النفطية وتؤثر بإنتاج النفط في كل من ليبيا ونيجيريا. وتخدم هذه الاضطرابات الدول النفطية التي تسعى لرفع أسعار خام برنت إلى أكثر من 90 دولاراً للبرميل.
ولا يستبعد محللون أن تقود الاضطرابات السياسية الحالية في الغابون إلى تعطيل الإنتاج النفطي بالبلاد، وقد ترفع من أسعار النفط خلال الأسبوع الجاري، إذ إنها تتزامن مع إعصار أميركي مدمر يتجه لضرب خليج المكسيك في الولايات المتحدة، الذي يضم أهم مخازن النفط ومرافئ التصدير.
ونتيجة لهذه المخاوف، جرى تداول خام برنت، وهو معيار عالمي، مرتفعاً بسعر 85.25 دولاراً للبرميل في الأسواق الدولية. في الوقت نفسه، بلغ سعر خام غرب تكساس (WTI) 81.59 دولاراً للبرميل. ويراقب الخبراء ومحللو السوق الوضع من كثب في الغابون، حيث يستمر التفاعل المعقد بين الأحداث الجيوسياسية وديناميكيات العرض في التأثير بالتوازن الدقيق في سوق النفط العالمية في الوقت الراهن.
على صعيد العلاقات مع باريس، ترتبط الغابون بعلاقات قوية مع فرنسا، وتُعَدّ من الأسواق الرئيسية للشركات الفرنسية في أفريقيا. وهو ما يبرر تراجع الأسهم المتداولة في بورصة باريس عقب إعلان الانقلاب العسكري، وإعلان شركة التعدين الفرنسية إراميت، التي تملك وحدة كوميلوغ Comilog لإنتاج المنغنيز عالي الجودة في الغابون، الأربعاء أنها علقت جميع عملياتها في البلاد، في أعقاب تطورات وقعت خلال الليل في البلاد.
وقال متحدث باسم الشركة لرويترز: "بدءاً من هذا الصباح، عُلِّقَت كل عمليات كوميلوغ وستراغ، فضلاً عن وقف عمليات النقل عبر السكك الحديدية".
وما إن أعلنت شركة التعدين الفرنسية العملاقة "إراميت"، تعليق جميع عملياتها في الغابون، في أعقاب الانقلاب، حتى هوى سهمها بنسبة عالية بلغت 18% إلى 62.45 يورو، وهو مرشح لمزيد من التدهور.
وسبق لمصالح فرنسا أن واجهت تحدياً في مناجم اليورانيوم في النيجر التي تُعَدّ سابع أكبر منتج عالمياً، إثر الانقلاب العسكري في 26 يوليو/تموز. وتمتلك النيجر خامات اليورانيوم عالية الجودة في أفريقيا، وأنتجت 2020 طناً مترياً من اليورانيوم في عام 2022، أي ما يعادل 5% من إنتاج التعدين العالمي، وفقاً لأرقام "الرابطة النووية العالمية"، علماً أن الإنتاج انخفض قياساً بنظيره البالغ 2991 طناً في عام 2020، وفقاً لما أوردته وكالة "رويترز".
ولدى النيجر عملية تعدين رئيسية واحدة في الشمال، تديرها شركة "أورانو" Orano الفرنسية المملوكة للدولة، ومنجم رئيسي آخر أُغلق عام 2021، إضافة إلى واحد قيد التطوير حالياً.
وحسب بيانات وزارة الخارجية الفرنسية على موقعها الإلكتروني، توجد حوالى 110 شركات فرنسية تعمل في الغابون، وتوفر نحو 14 ألف فرصة عمل، وتنتج مبيعات تقدَّر بنحو 3.23 مليارات يورو. وفي ذات الصدد، تنشط الوكالة الفرنسية للتنمية في البلاد، حيث قدمت قروضاً سيادية لتمويلات البنية التحتية والمشاريع الاجتماعية.
وحسب البيانات الفرنسية الرسمية، تُعَدّ الشركات الفرنسية ذات حصة تصديرية كبيرة لأسواق الغابون، حيث تبلغ حصتها بالسوق الغابوني 26%، متقدمة بذلك على بلجيكا والصين. وتتعلق الواردات الفرنسية من الغابون تحديداً بالمواد الهيدروكربونية (55% من الواردات)، وكذلك الخشب والمنغنيز.
وحسب بيانات الفرنسية، فإن الغابون غني بالمعادن، وتتركز مواقع التعدين الرئيسية في مناطق مونانا، وأوكلو، وبويندزي، التي أنتجت أكثر من 6 ملايين طن من المعادن، منها 27800 طن من اليورانيوم. لكن إنتاج اليورانيوم انخفض بنسبة 60% إلى 294 طناً مترياً بحلول يونيو/حزيران من عام 1999، قبل أن يتوقف تماماً.
وفي أعقاب الاستقلال، تملكت الشركات الأوروبية معظم الموارد المعدنية والمؤسسات الاستراتيجية في القارة السمراء مثل الاحتياطيات الهيدروكربونية، والمعادن والاتصالات، وإدارة الموانئ، وإدارة السكك الحديدية، وأنظمة تجارة التجزئة، وحتى شركات المقاولات التي تُدير البنية التحتية. وكما يقول وزير خارجية السنغال الأسبق، دودو ثيام في تحليل للاستعمار الاقتصادي الجديد، فإن القوى الاستعمارية التي منحت الاستقلال للدول الأفريقية قامت بسهولة بملء فجوات السلطة في بلدان القارة.
ومع أن الظروف الحالية تشير إلى حدوث تغيير في غرب أفريقيا، فإن فرنسا التي تلوح بالقوة لحماية نفوذها، قد تضع شركاتها في مأزق لتواجه المزيد من الحصار وربما الطرد من بعض دول القارة السمراء.
في ذات الصدد، يرى تحليل بمعهد العلاقات الخارجية الأوروبي، أن التعاون التجاري بين أوروبا وأفريقيا يركز بشكل شبه كامل على تجارة المعادن والسلع الأولية الأخرى، ويتجاهل خدمات الأعمال المصرفية والتأمين والاستثمار في تنمية الأسواق والصناعات التي باتت مفقودة إلى حد كبير من أجندة التعاون التجاري والتنموي بين أوروبا وأفريقيا.
وحسب تقرير المعهد، يشكل قطاع الخدمات أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي للقارة الأفريقية. ويرى أن التوسع السريع في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) والاقتصاد الرقمي، و"خدمة" التصنيع، وتجزئة عمليات الإنتاج عبر الحدود، يجعل التجارة في الخدمات أكثر أهمية للقارة الأفريقية، ولكنه يفتقر إلى الاستثمارات.
ويرى محللون في ذات الصدد، أن تركيز الشركات الأوروبية فقط على تنجيم المعادن والمتاجرة فيها بالأسواق العالمية، كان السبب الرئيسي في خسارة الشركات الأوروبية لصالح المكاسب التي جنتها الشركات الصينية في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة.