تعاني باكستان حالياً من ضائقة مالية شديدة رغم توصلها إلى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي يتيح الحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، وتمر البلاد بوضع اقتصادي هش ومتفاقم، ما أثر على كل قطاعات الحياة وشرائح المجتمع.
ورغم ذلك، برزت أمس الاثنين، علامة إيجابية لدولة تعاني من أسوأ أزمة اقتصادية لها، تمثلت برفعت وكالة التصنيف الائتماني "فيتش" التصنيف الافتراضي لمصدر العملة الأجنبية طويل الأجل لباكستان من CCC- إلى CCC.
وقالت "فيتش" في بيان أوردته "رويترز"، إن الرفع يعكس تحسن السيولة الخارجية وظروف التمويل في البلاد بعد اتفاق مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي، لكنها حذرت من أن العجز المالي لا يزال كبيراً.
ويصاحب أزمة باكستان نشوب خلاف حاد بين أعضاء التحالف الحاكم بشأن ميزانية الدولة الجديدة، البالغة قيمتها 14.5 تريليون روبية (نحو 50.5 مليار دولار)، وجرى تخصيص أكثر من نصفها لخدمة أعباء ديون بقيمة 7.3 تريليونات روبية، وهو ما يبزر تأثيرات الوضع الاقتصادي والمالي المتفاقم.
رفعت وكالة "فيتش" التصنيف الائتماني طويل الأجل لباكستان من CCC- إلى CCC
وعلى الرغم من اعتماد البرلمان الميزانية الجديدة يوم الـ25 من الشهر الماضي، إلّا أنّ الخلافات بشأنها وتباين الأراء بين القوى السياسية بشأن طرق الخروج من الأزمة المالية الحالية التي تمر بها البلاد لا تزال مستمرة وحادة، وقد يؤدي الخلاف إلى انهيار التحالف الحاكم وفق مراقبين.
وبدأت مؤشرات الانهيار تظهر منذ تقديم الحكومة مسودة الميزانية الجديدة إلى البرلمان في السابع من الشهر الماضي.
وزاد منسوب الخلافات على الرغم من نجاح المفاوضات بين الحكومة الباكستانية وصندوق النقد الدولي وإبرام اتفاق مبدئي يوم 30 يونيو/حزيران الماضي قبل أيام، يتيح لباكستان الحصول على قروض بقيمة 3 مليارات دولار، بعد تأخر دام 8 أشهر بسبب تعطل المفاوضات بين الجانبين، علها تجنب البلاد حدوث انهيار اقتصادي وأزمة مالية غير مسبوقة.
وكانت تقارير من بنوك استثمار عالمية قد تحدثت قبل إبرام الاتفاق عن قرب إفلاس باكستان، وعجزها عن سداد أعباء الديون. لكن رئيس الوزراء شهباز شريف قال إن الاتفاق سيمكّن باكستان من تحقيق الاستقرار الاقتصادي، ويضع البلاد "على طريق النمو الاقتصادي المستدام بإذن الله".
ويعاني الاقتصاد الباكستاني من شح في النقد الأجنبي، وأزمة في ميزان المدفوعات، وصعوبة في الاستدانة الخارجية، في الوقت الذي تحاول فيه البلاد سداد أعباء خدمة الدين الخارجي الضخم، في ظل فوضى سياسية، ورفع كلفة الاقتراض الخارجي بسبب زيادة سعر الفائدة الأميركية 10 مرات منذ مارس/آذار 2022، وهو ما ساهم في طرد الأموال الساخنة، وإبعاد أي استثمارات أجنبية محتملة.
كما زاد تردي الأوضاع المعيشية للمواطن بسبب ارتفاع معدل التضخم بشكل كبير وتهاوي الروبية، وهناك مصاعب في سداد كلفة الواردات، ما تسبب في انخفاض حاد في الإنتاج الصناعي، وزيادة الضغوط على القطاع الخاص وقطاع الأعمال.
يعاني الاقتصاد الباكستاني من شح في النقد الأجنبي، وأزمة في ميزان المدفوعات، وصعوبة في الاستدانة الخارجية
وخلال الأشهر الماضية، شهدت المفاوضات بين الحكومة الباكستانية وصندوق النقد الدولي الشد والجذب وعقبات كثيرة، خاصة بعد وضع الحكومة الميزانية الجديدة، ما جعل الصندوق يتردد في إبرام اتفاق مع الحكومة، بخاصة أنها تلكأت في الإيفاء بتعهداتها مع المؤسسة المالية، ومنها زيادة الضرائب وخفض دعم السلع والخدمات الرئيسية، ومنها الوقود والكهرباء.
وفي وقت سابق، أبلغ صندوق النقد باكستان أنها بحاجة إلى تأمين قروض خارجية إضافية، وإلغاء مجموعة كبيرة من الإعانات الاجتماعية، وتعويم الروبية مقابل الدولار، قبل الإفراج عن شريحة أخرى من تسهيلات قروض بقيمة 6.5 مليارات دولار، لكن الحكومة بعد مفاوضات مكثفة مع الصندوق وعدت بأنها ستفي بتلك التعهدات، كما أجرت التعديلات في الميزانية وفق ما كان يريده صندوق النقد، ما نجم عنه إبرام اتفاقية مبدئية بين الطرفين.
ولا شك أن لتلك التعديلات على الميزانية الجديدة تأثيرات سلبية على المواطن العادي، كما يقول أحد سكان مدينة بيشاور، جهانكير خان، الذي أكد لـ"العربي الجديد" أن الحكومة الباكستانية باتت تقع بين السندان والمطرقة، بين شروط النقد الدولي الصعبة وتحسين وضع المواطن، لكنها في النهاية أُرغمت على قبول شروط الصندوق وليدفع المواطن الثمن.
ويضيف قائلاً: "المواطن تنتظره أيام صعبة، بخاصة أصحاب الدخل المحدود والطبقة الفقيرة التي تعاني من غلاء الأسعار والبطالة، والحكومة فعلت ذلك هرباً من حالة الإفلاس".
ثمة نقاط مثلت خلافات بين الحزبين الرئيسين في التحالف الحاكم، حزب الرابطة الإسلامية جناح نواز شريف وحزب الشعب الباكستاني
وعلى مستوى بنود الموازنة الجديدة، وافق شهباز شريف، رئيس الوزراء، على تخصيص 25 مليار روبية (87 مليون دولار) في شكل مساعدات لضحايا الفيضانات، وتخصيص نحو 950 مليار روبية لمشاريع تنموية قبل الانتخابات العامة المقررة هذا العام، في حين تشمل الإجراءات الجماهيرية الأخرى زيادة رواتب الموظفين الحكوميين بنسبة 35%، ومعاشات التقاعد الحكومية بنسبة 17.5%.
وهي نقاط مثلت خلافات بين الحزبين الرئيسين في التحالف الحاكم، حزب الرابطة الإسلامية جناح نواز شريف وحزب الشعب الباكستاني، ما جعل المراقبين يعتقدون أن التحالف الحاكم يسير نحو الانهيار، لا سيما أن الوضع السياسي في البلاد آخذ في التفاقم مع اقتراب موعد الانتخابات.
وشهدت جلسات البرلمان خلال المصادقة على مسودة الميزانية نقاشات حادة بين نواب البرلمان، انتقد خلالها النواب المنتمون لحزب الشعب الباكستاني بشدة أداء الحكومة، واصفين الميزانية بغير المتوازنة.
ويرى الخبراء أن الأحزاب التي يضمها التحالف الحاكم تريد الخروج من التحالف قبل إجراء الانتخابات، حتى لا تدفع تبعات الوضع الاقتصادي السيئ في الانتخابات القادمة، ويكون حزب شهباز شريف هو الوحيد الذي يدفع الثمن، كونه ترأس الحكومة.
في الشأن نفسه، قالت النائبة في البرلمان الباكستاني من حزب الشعب نصيبة جنا، وهي تعلق على مسودة الميزانية التي قدمتها الحكومة في الـ17 من شهر يونيو الماضي أثناء جلسة برلمانية، إنّ "الميزانية ليست لفقراء البلاد، ولا حتى للطبقة المتوسطة، بل هي للسادة والأثرياء، نحن لم نرَ شيئاً فيها لعامة الناس، الحكومة لم تفعل شيئاً للموظفين والعمال ولا لمتضرري الفيضانات الجارفة".
وأوضحت النائبة أن هناك زيادة هشة في رواتب الموظفين والمتقاعدين، وهذه الزيادة ترجع إلى زعيم حزب الشعب والرئيس الباكستاني الأسبق آصف علي زرداري، لأن الحكومة فعلت ذلك نتيجة إصراره المتواصل على تمريرها في الموازنة الجديدة، معربة عن أسفها لعدم توفر الكهرباء والغاز للجمهور، رغم الزيادة المستمرة في الأسعار.
الوضع الاقتصادي الهش والمتردي عقبة كبيرة في وجه الحكومة قبيل إجراء الانتخابات
كما انتقدت النائبة الحكومة لعدم اتخاذ أي خطوات من أجل تحسين الوضع المعيشي للمواطن، مؤكدة أن الشعب الباكستاني كانت لديه آمال كبيرة من الحكومة الحالية، ولكن الباكستانيين يبكون الآن، ويعتقدون أن تلك الحكومة أسوأ من حكومة عمران خان السابقة.
وانتقد نائب ثانٍ في البرلمان من حزب الشعب، هو أبرار شاه، سياسة الحكومة في تقسيم الميزانية الجديدة على الأقاليم، مؤكداً أنها لم تراع الإنصاف، وأنها ظلمت إقليم السند، وأعطت الحصة الكبرى لإقليم البنجاب، حيث ينتمي إليه رئيس الوزراء شهباز شريف، ولحزبه (حزب الرابطة الإسلامية) نفوذ كبير فيه، موضحاً أن إقليم السند لم يحصل على حصته المناسبة من الميزانية، ومطالباً الحكومة بأن تعيد النظر في ذلك، وإلا فإن حزبه لن يدلي بصوته في حق الميزانية الحالية.
وكان وزير الخارجية الباكستاني بلاول بوتو، وهو زعيم حزب الشعب بالشراكة، ونجل الرئيس الأسبق آصف زرداري، قد أكد، قبل أسابيع، في خطاب له أمام مهرجان شعبي في وادي سوات شمال غربي البلاد، أن الميزانية الحالية غير قابلة للاعتماد عليها، وأن حزبه لن يدلي بصوته في حقها، خاصة أن المتضررين جراء الفيضانات لم يحظوا بنصيبهم فيها، مطالباً الحكومة بإجراء التعديل، وأن تأخذ في عين الاعتبار مقترحات حزبه.
من جانبها، أعربت الحكومة وقياديون في الحزب الحاكم عن خيبة أملهم حيال موقف حزب الشعب وتصريحات قياداته بشأن الميزانية الجديدة، وقال وزير التخطيط الاتحادي أحسن إقبال، في تصريح له تعليقاً على ما قاله وزير الخارجية، إن انتقاد بعضنا بعضاً في الاجتماعات السياسية سيخلق حالة من عدم اليقين وعدم الاستقرار، من هنا على الجميع الامتناع عن فتح جبهة ضد الآخر، كما دعا الوزير الأحزاب المتحالفة كافة للجلوس إلى طاولة الحوار، واتخاذ موقف موحد حيال جميع القضايا المهمة، خاصة تلك التي تتعلق بالوضع المعيشي والاقتصادي الراهن.
فيما قالت وزيرة الإعلام مريم أورنكزيب إن رئيس الوزراء شهباز شريف أجرى مباحثات مع الأحزاب المتحالفة في الحكومة لإزالة تحفظاتها على الميزانية الجديدة، مؤكدة أن التحالف متماسك، وأن الوضع المعيشي والاقتصادي في البلاد يتطلب العمل المشترك من قبل جميع الأحزاب المتحالفة في الحكومة، وأن الانقسام ليس في صالح أحد، وليس في صالح البلاد.
جهود الحكومة لم تتكلل بالنجاح مع أن الحكومة سعت، ولا تزال، من أجل تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي
وفي تعليق له، يقول الأكاديمي والخبير الاقتصادي الباكستاني محمد هاشم، لـ"العربي الجديد"، إنّ الوضع الاقتصادي هش في البلاد، وهو آخذ في التردي أكثر خلال الأيام المقبلة، ومن جهة ثانية، تنتهي الفترة القانونية للحكومة الحالية في شهر أغسطس/آب المقبل، وبالتالي قانونياً ستجرى الانتخابات في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
يضيف: "لا شك أن الوضع الاقتصادي الهش والمتردي عقبة كبيرة في وجه الحكومة قبيل إجراء الانتخابات، لأن المواطن لن يدلي بصوته للأحزاب المتحالفة في الحكومة الحالية، من هنا فإنّ حزب الشعب الباكستاني يسعى للخروج من هذا المأزق، وليقل للشعب إن كل ما حدث على الصعيد الاقتصادي من صنع الحزب الحاكم ورئيس الوزراء، ولا دخل له في القضية".
كما يؤكد الأكاديمي أن الخاسر الأكبر في خضم ما يحصل اقتصادياً وسياسياً هو حزب الرابطة الإسلامية، حزب رئيس الوزراء الحالي، لأن كل ما يحصل محسوب عليه، وأن المؤسسة العسكرية تحاول أن تساعد الحكومة بكل ما أوتيت من قوة في الوقت الحالي، لكن الأمور خارجة عن سيطرة الحكومة والمؤسسة العسكرية معاً، من هنا يتوقع أن تتخلى المؤسسة العسكرية عن حزب شهباز شريف قبيل الانتخابات، لأنها ستدرك أنه لا طائل منه.
ولعل الخيار الأنسب لموالاة المؤسسة العسكرية في المستقبل هو حزب الشعب، لأن حركة الإنصاف، بزعامة رئيس الوزراء السابق عمران خان، اضمحلت إلى حد كبير، بعد أن انفصل عنها الكثير من القيادات، كما أن صراعه مع المؤسسة العسكرية متواصل؛ من هنا فإن حزب الشعب سيخرج من التحالف الحاكم إما قبل انتهاء مدة الحكومة أو بعدها، لأن مستقبله ليس في التحالف.
"جهود الحكومة لم تتكلل بالنجاح مع أن الحكومة سعت، ولا تزال، من أجل تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي، كما أن المؤسسة العسكرية واقفة إلى جانبها حتى الآن"، بحسب قائد الجيش الجنرال عاصم منير في بيان قبل أيام. وشدد على أن المؤسسة العسكرية تحمي كل الجهود التي تقوم بها الحكومة من أجل تحسين الوضع الاقتصادي في البلاد.
إلا أن كل ما قامت به الحكومة حتى الآن لم يصاحبه تحسين الوضع المعيشي، ولو نسبياً، حتى تذهب إلى الانتخابات، وليكون لديها شيء من الثقة في الحصول على دعم الشعب ولو نسبياً.
يذكر أن رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف أكد، في خطاب له أمام اجتماع في إسلام أباد يوم 19 يونيو/حزيران الماضي، أن "الدول الصديقة التي دفعت لنا ديوناً كبيرة عندما كنا نطلب منها المساعدة، تقول لنا إلى متى تأخذون الديون؟! وبعضها لا تتحدث بشكل صريح، غير أن تعاملها يشي بذلك، من هنا نحن لا نتوقع كثيراً من تلك الدول، والأهم لنا أن نعمل على مواردنا الداخلية، وأن نستخدم الديون التي نحصل عليها من الدول الصديقة، أو من أي جهة أخرى، في تقوية الموارد الداخلية، بدلاً من استثمارها في مشاريع آنية".
وأضاف شريف أن بلاده تواجه تحديات مالية قاسية، وهي تمر بمرحلة حرجة للغاية، وتسعى الحكومة لأن تُخرج البلاد من هذه الفترة الحساسة والحرجة، مشيداً بدور بكين، قائلاً إنّ الصين تدعم باكستان بشكل كامل، وهي قدمت مليار دولار في الأيام الأخيرة ديناً إلى باكستان، مؤكداً أنه لا يشجع ظاهرة أخذ الديون "لكن مع الأسف هذا هو واقع باكستان".