تعود قضية حقوق العمل والمساواة بين الجنسين إلى الواجهة في بريطانيا، بعد أن تبيّن أنّه مع الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" استغنت الحكومة عن البند الذي يمكّن النساء من المطالبة بتعويضات وشروط متساوية مثل نظرائهم من الرجال عند العمل وفق الشروط والظروف ذاتها.
وقالت صحيفة "فايننشال تايمز" إن "الحكومة البريطانية تخطّط حالياً لإعادة تقديم هذا التشريع في وقت لاحق من هذا العام.
يأتي ذلك بعد أن صرّحت شخصيات بارزة في حزب العمال للصحيفة ذاتها، بأن الحزب سيقدم تعهداً بإعادة الحماية السابقة إذا فاز في الانتخابات العامة المقبلة. واتّهم الوزراء بإزالة الحماية للنساء ذوات الأجور المنخفضة من الباب الخلفي.
وسط التحديات المستمرة، يجد عدد كبير من النساء أنفسهن يكافحن من أجل المساواة في الأجور داخل بعض القطاعات، ومنها قطاع التجارة بالتجزئة مثل السوبر ماركت.
تداعيات بريكست
وسلّطت ملاحظة تحذيرية في وقت سابق من هذا العام لشركة "لينكلاترز" القانونية الضوء على تغيير محوري، وهي أن الاعتراف وإنفاذ "الحقوق الفعلية المباشرة" الناشئة عن معاهدات الاتحاد الأوروبي ستتوقف عن التأثير بعد عام 2023. وقدّمت مثالاً واضحاً على الحق الفعلي المباشر في المادة الـ157 من معاهدة أداء الاتحاد الأوروبي، التي تشدد على ضمان حصول الرجال والنساء الذين يقومون بالوظيفة ذاتها على الأجر نفسه.
وأشارت إلى أنّ الآلاف من العاملات في السوبر ماركت حالياً يعتمدن على المادة الـ157 في مطالباتهن بالمساواة في الأجور مع عمال التوزيع الذكور، وعلى الرغم من أن مطالباتهنّ يمكن أن تستمر، إلا أنه لا يمكن للمطالبين المستقبليين الاعتماد على المادة في ما يتعلق بالأفعال التي تحدث بعد نهاية عام 2023.
في السياق، قال متحدث باسم الحكومة للصحيفة ذاتها إنه "لن يُقلَّل من ضمانات المساواة في الأجور بأي حال من الأحوال. ومن المقرر تقديم التشريع الثانوي المقبل إلى البرلمان قبل نهاية العام بوقت طويل".
ورداً على هذه التطورات، قال ممثل النقابة العامة "GMB": "إذا صحّت دقة هذه التقارير، فإن الوزراء المحافظين كانوا مسؤولين عن أشهر طويلة من الغموض من دون مبرر يذكر. وينبغي دمج هذه الخطوة ضمن سلسلة شاملة من الإصلاحات تهدف إلى معالجة نهائية لقضية التحيّز في الأجور التي طال أمدها".
وبموجب قانون المساواة في المملكة المتحدة، يجب أن يحصل الرجال والنساء الذين يعملون في الوظيفة نفسها ويؤدون عملاً متساوياً على أجر متساوٍ، ما لم يكن هناك تبرير لأي اختلاف.
بيد أنّه في الواقع لم تنطبق هذه الشروط دائماً على النساء في بعض القطاعات أو أولئك اللواتي يعملن في مواقع مختلفة عن الرجال، ولكنهنّ يقمن بوظائف مماثلة.
وقدّم الاتحاد الأوروبي بنداً مهماً يعرف باسم "اختبار المصدر الواحد"، الذي أدى فعلياً إلى سد فجوة كانت موجودة في السابق، حيث يمنح هذا البند العمّال الحق في الحصول على أجر متساوٍ عندما يعود عملهم في نهاية المطاف إلى "المصدر" نفسه.
وقد أثبت هذا الإجراء فعاليته في تمكين النساء ذوات الأجور المنخفضة، من معالجة الفوارق في الأجور مع أصحاب العمل. ومع ذلك، وجد نفسه من بين مئات القوانين المقرّر إلغاؤها بحلول يناير/كانون الثاني 2024.
في المقابل، وفي تحول ملحوظ للأحداث، كشفت الحكومة مساء الثلاثاء 29 أغسطس/آب، عن عزمها على سنّ تشريع يهدف إلى الحفاظ على هذه التدابير الوقائية قبل نهاية العام. وتمثل هذه الخطوة تحولاً ملحوظاً في الاتجاه بعد القرارات السابقة المتعلقة بوقف هذه الضمانات.
فجوة الأجور
إلى ذلك، تكشف أحدث أرقام رواتب الموظفين الصادرة عن مكتب الإحصاءات الوطنية عن فجوات في الأجور بين الجنسين، في العديد من الوظائف الشائعة في المملكة المتحدة.
ورغم حدوث تحولات مشجعة، فإن مأزق تكلفة المعيشة الحالي قد أضفى إحساساً متزايداً بالأهمية العاجلة لمهمة القضاء على الفجوة في الأجور بين الجنسين.
ومن بين الشركات التي كشفت عن أرقام الفجوة في الأجور بين الجنسين (GPG)، وذلك للفترة 2022-2023، حيث بلغ متوسط الفجوة في الساعة 11.96%.
ويشير هذا إلى انخفاض متواضع بنسبة 0.2% مقارنة ببيانات الفترة 2021-2022، ما يدل على مسار تنازلي واعد وفقاً للاتجاه الذي حُدِّد منذ بدء لوائح الفجوة في الأجور بين الجنسين.
ومن اللافت للنظر، أن هذه النسبة أقل من متوسط فجوة الأجور الوطنية، التي أفاد مكتب الإحصاءات الوطنية (ONS) بأنها تبلغ 14.9٪ لعام 2022.
وبشكل عام، شهدت نسبة النساء اللاتي يشغلن أدواراً ضمن الشريحة الربعية الأعلى أجراً ارتفاعاً، حيث وصلت إلى 41.07%. وهذا الارتفاع ملحوظ عند مقارنته بأرقام 39.18% في عام 2017 و40.54% في عام 2021.
وفي الوقت ذاته، لا تزال النساء يشكلن أغلبية كبيرة تبلغ 54.92% من الموظفين العاملين في وظائف الربع الأدنى أجراً. وتعكس هذه الإحصائية زيادة هامشية بنسبة 0.2% عن البيانات المسجلة في عام 2022.
ونظراً لاستمرار هيمنة النساء بين أصحاب الأجور المنخفضة، فإنهن يجدن أنفسهن في خطر متزايد مقارنة بالرجال في تحمّل وطأة النفقات المتصاعدة المرتبطة بالسلع والخدمات الأساسية بسبب تفاقم تكلفة المعيشة المستمرة.
ويتجلى هذا الوضع بشكل ملحوظ في الخدمات المالية والمجالات الجامعية، وفي الوقت الحاضر، يشغل 56.7% من النساء في قطاع الخدمات المالية و66% من النساء في القطاع الجامعي مناصب ضمن ربع الوظائف الأقل أجراً.
في عام 2023، أجرى معهد "تشارترد" لشؤون الموظفين والتنمية (CIPD) دراسة استقصائية، كشفت أن 42% فقط من الموظفات قادرات على تغطية نفقاتهن والوفاء بالتزاماتهن المالية من دون صعوبات. وتنخفض هذه النسبة إلى 34% بالنسبة إلى الموظفات اللاتي يكسبن أقل من 20 ألف جنيه إسترليني.
تقدم محدود
وقد أعرب مؤتمر نقابات العمال والمنظّمات المناصرة عن استيائها وفزعها إزاء التقدم المحدود الذي تحقق منذ تطبيق الإبلاغ الإلزامي، ورأت أن التطور غير كافٍ في مكافحة الفوارق بين الجنسين داخل القوى العاملة.
واستجابة لذلك، تحثّ هذه المجموعات الحكومة على وضع خطط عمل إلزامية تحدد التدابير المحددة التي يتعين اتخاذها من أجل تصحيح عدم المساواة بين الجنسين في أماكن العمل.
وما يثير الاستهجان، أنّه في عام 2022، احتلت المملكة المتحدة المرتبة الـ22 على مؤشر الفجوة العالمية بين الجنسين، ما يجعلها خلف دول أوروبية أخرى مثل فرنسا وألمانيا وأيرلندا.
وعلى مدار العقود الأخيرة، شهدت التصورات المحيطة بالمساواة بين الجنسين تطوراً كبيراً. ففي عام 1987، أيد ما يقرب من نصف سكان المملكة المتحدة، أي 48%، فكرة أنّ الرجل وظيفته لكسب المال، أما وظيفة المرأة فتقتصر على الاعتناء بالمنزل والأسرة.
ومع مرور الوقت، تبدّلت هذه المفاهيم وانخفضت إلى 8% فقط بحلول عام 2017. أمّا في ما يتعلق بالمسؤوليات المنزلية عموماً، فقد اعتقد ما يقرب من 77% من النساء في فبراير/شباط 2023 أنه ينبغي بذل المزيد من الجهود لتحقيق المساواة بين الجنسين في هذا المجال.