تحدث الأزمات في كل الدول، وتتفاوت ردود الأفعال بين المسؤولين هنا وهناك، وتكون الشعوب في أغلب الأحيان صبورة على حكامها، فلا تنتظر حلاً سحرياً في أيام أو أسابيع قليلة، وإنما تأمل أن تكون نهاية صبرها خيراً، تُنفرج به أزماتها، ولو قليلاً، وألا تسمع خلال صبرها ما يقلل من مصائبها، ويهون من آلامها.
وفي مصر، ارتفع الدولار أمام العملة المصرية بنحو 75% منذ شهر مارس/ آذار الماضي، وما زال غير متاح لكل راغب في الشراء، واختفت العديد من السلع من الأسواق، بسبب عدم قدرة المستورد، أو البنك الذي يتعامل معه، على توفير العملة الأجنبية اللازمة لدفع قيمتها.
وارتفعت الأسعار بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة، بعد أن زادت التوقعات بمزيد من التراجع في سعر الجنيه، وزادت التعاملات في السوق الموازية، بأسعار تتجاوز السعر الرسمي بأكثر من 10%، فتعذّر على الطبقة المتوسطة الوصول إلى ما اعتادت شراءه، وانزلقت شريحة غير بسيطة منها إلى الطبقات الأقل، ويمكنك توقع ما حدث للطبقات الفقيرة.
زادت معاناة المصريين مع حدوث كل ذلك، خاصة وأن التوقعات وتصريحات المسؤولين السابقة كانت تشير إلى أن الوقت ربما يكون قد حان ليبدأوا في جني ثمار الإصلاحات الاقتصادية السابقة، التي كنا نسمع عنها في حديث كل مسؤول، بينما لا نراها أبداً حقيقة واقعة.
وبينما كان المصريون ينتظرون الانفراجة، كانت عملتهم، وبالتالي مدخراتهم، وثرواتهم، ودخولهم، تتراجع بصورة شبه يومية، وفي حين كانت التوقعات والأمنيات أن يظهر من يوضح للمواطنين حقيقة الأمر، كانت التصريحات الصادرة تنم عن عدم تحمل للمسؤولية، واستهتار كبير بما يتعرض له الملايين من المصريين.
كانت البداية مع التصريحات الاستفزازية التي بدأت توضح فوائد أكل "أرجل الدجاج"، في ظاهرة لم يتعرض لها المصريون من قبل في تاريخهم الحديث. وكان من دواعي الأسف والخجل انضمام شخصيات يفترض أن تكون مسؤولة إلى زمرة الإعلاميين، الذين راق لهم "التطبيل" في هذه القضية الشائكة، دون مراعاة لإحساس وآلام المصريين.
ثم جاء بعد ذلك دور مسؤولَين كبيرين (جداً) بأكبر بنكين حكوميين مصريين، يفترض أنهما يمثلان الدولة، ويلعبان دوراً مهماً في هذه المرحلة شديدة الحساسية بالنسبة للمصرين، ليخرجا علينا بتصريحين مهمّين، إلا أنهما كانا بعيدين كل البعد عن الدور الذي يجب أن يلعباه.
ترك المسؤولان سعر الجنيه الآخذ في الانهيار، والديون التي أوشكنا على التوقف عن سدادها، والبضائع المتراكمة في الموانئ لعدم وجود العملة الأجنبية اللازمة لتخليصها، وما يشاع عن اقتراض بنكيهما مئات الملايين من الدولارات الأسبوع الماضي، لمساعدة البنك المركزي على توفير العملة للمستوردين، وطلعا علينا بتصريحين، أخشى أن يكونا معبّرين عن سياسة الدولة في التعامل مع الأزمة.
أما الأول، فقال إن الفترة الحالية تتطلّب أن "يعطي الغني الفقير والمحتاج"، وأما الآخر فقد نشر على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك قولاً منسوباً لممثل في أحد مسلسلاته، يقول فيه "ما حدش يوعظ الناس بالخوف والفقر إلا الشيطان وبس، لكن اللي يعرف ربنا حقيقي يوعظ الناس بحسن الظن والفرحة"!
لا أتصوّر وجود سبب لصدور مثل هذه التصريحات من مسؤولين مصرفيين إلا الإفلاس. لا أقصد إفلاس الدولة أو إفلاس البنكين، فلا أحد يدرك بقدر من الدقة متى يكون هذا، ولكن أقصد إفلاس الفكر. فلا يمكن أن يكون هؤلاء قد فكروا قبل أن ينطقوا بمثل هذه الكلمات.
لم أكن لأعترض لو صدرت الكلمات، التي أوافق بالتأكيد على مضمونها، من خالد الجندي أو الشعراوي، فهذا تخصصهما، ومنهما نتوقع سماع تلك الكلمات.
أما المسؤولان، فكنت أتمنى أن أسمع منهما ما يخصّ توقعاتهما بخصوص أين ومتى يتوقف تدهور قيمة الجنيه، أو متى نتمكن من النزول بالدين الخارجي، بعد سنوات من الارتفاع، أو كيف يمكن تنمية موارد العملة الأجنبية في بلد اعتاد على فقدان عملته نسبة كبيرة من قيمتها كل عامين أو ثلاثة، بسبب عجز مزمن في الميزان التجاري، والحساب الجاري، وميزان المدفوعات.
أمثلة تلك التصريحات "الفارغة" ليست نادرة هذه الأيام، كما أنها ليست جديدة علينا، فقد سمعنا كثيراً منها في عصر المحافظ السابق، وكان أشهرها بالتأكيد حين قال، بقدر من الثقة، إن الدولار سينخفض ليصل إلى سعر 4 جنيهات، فإذا بسعره يتضاعف بعده بفترة قصيرة. ولما سئل، أجاب بأنه كان يمزح!
قالها وهو يظن أن خطأ المزاح أقل أهمية من خطأ التوقع، ليضيف إلى هفواته خطأً جسيماً، إذ أثبت أنه لا يعرف مسؤوليات منصبه، وأهميته، وتبعات كل كلمة يتلفظ بها، خاصة في الظروف الصعبة، التي يتعلق فيها الملايين بكل كلمة تصدر عن مسؤول، يحلمون بأن تكون نجاتهم فيها.
ولكي نكون منصفين، أعترف أن قلة الإحساس بالمسؤولية، والهزل في موضع الجد، لم يُحتكرا من مسؤولينا، وإنما نازعهم فيهما كبار رموز المعارضة، لنتذكر من جديد أن مصيبتنا ليست في الحكام فقط، ولكن أيضاً في النخب والقيادات التي احتلت الصدارة لتمثيلنا لسنوات طوال، قبل أن نراهم على حقيقتهم.
وها هو رمز المعارضة، الكامن في جحره منذ سنوات، رغم كل ما يحدث، حتى تطورت الأمور على النحو الذي شهدناه، فإذا به يغرد على موقع التواصل تويتر بمزحة سخيفة، بدلاً من أن يتصدر المشهد، من خلال تقديم مقترحات أو استغلال الفرصة لإظهار ضعف أداء النظام، وفشل القائمين عليه.
ثم بعد كل ذلك، يخرج علينا الرئيس نفسه، ضاحكاً بصورة تتنافى مع الأزمة، والأوضاع المعيشية شديدة الصعوبة، التي يواجهها المصريون، بقوله "أقول لمن يفزعون الناس ويثيرون البلبلة: بطلوا هري" (أي توقفوا عن الكلام غير المجدي).
لا يا ريس ... لسنا نحن من يتعين عليه أن "يبطل هري"، وإنما هؤلاء المسؤولون هم من يتعيّن عليهم ذلك. أما نحن، فبالله عليك دعنا نهري حتى لا نموت من الغيظ، أو الجوع.