تشهد منطقة الشرق الأوسط تصاعداً خطيراً في حدة الصراعات، ما ينعكس بشكل مباشر على التجارة العالمية وأمن الموانئ الحيوية في البحرين المتوسط والأحمر. في هذا السياق، ذكرت صحيفة "ليكو دي برغامو" الإيطالية أن الأزمة التي لا نهاية لها في الشرق الأوسط، والصراع الذي يتوسع كل يوم منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، من قطاع غزة ولبنان ما زال يلقي بظلاله على البحر الأحمر "الذي يبدو أنه لم يعد ينعم بالسلام"، وبالتالي أيضاً على البضائع التي ينقلها العديد من شركات الشحن في مدينة برغامو، والتي تضررت، أولاً من هجمات الحوثيين، والآن من عواقب حرب دموية مآلاتها موضع شك متنام.
وتابعت الصحيفة، تحت عنوان "الأزمة في الشرق الأوسط، هكذا تتغير المسارات وتُستبعَد إيطاليا"، أن حدة التوتر ما زالت مرتفعة للغاية، وتستغرق مستوردي ومصدري الخدمات اللوجستية الذين يخشون من أن يؤدي التصعيد بين إسرائيل وإيران إلى التدمير التام للمسار الذي يربط بين آسيا وأوروبا، مروراً بقناة السويس.
من جهته، أعرب الرئيس الجديد لرابطة وكلاء الشحن والنقل السريع (أسكو برغامو) مارتشيللو سابونارو، عن قلقه الشديد حيال أزمة البحر الأحمر "التي لا تزال تشكل عائقاً كبيراً أمام التجارة الدولية، وتلحق الضرر على وجه الخصوص بالمدن الأكثر انغماساً في التصدير في أوروبا وإيطاليا، مثل برغامو".
ورأى سابونارو، في تصريحات لـ"ليكو دي برغامو"، أن "المشكلة لا تتعلق فقط بمسألة الزيادة في التكاليف، المرتفعة للغاية. الحقيقة أن الجانب الأكثر خطورة يتمثل في الزيادة الهائلة لزمن الملاحة (أطول بـ20-25 يوماً تقريباً) للدوران حول أفريقيا"، مشيراً إلى أن "الغالبية العظمى من الشركات حتى الآن تؤكد رغبتها في عدم عبور قناة السويس. وهكذا ففي المتوسط فإن رحلة السفن المتجهة، على سبيل المثال، إلى الصين، التي كانت دائماً واحدة من الوجهات التجارية الأكثر شعبية، تستغرق 60 يوماً من الملاحة على الأقل".
ومن جهته، أوضح الخبير الإيطالي والرئيس السابق للتحالف اللوجستي العالمي GLA ومعهد الدراسات الأمنية بجنوب أفريقيا ISS جوزيبي أرنولدي أن "المخاطر الملموسة في الأشهر الأخيرة، جراء هجمات الحوثيين، تمثلت في مصادرة شحنات، وإيقاف سفن، وإصابة أو مقتل أفراد. وقد أدى ذلك إلى أن شركات النقل الكبيرة قررت تغيير مسارها: لم تعد تسلك البحر الأحمر لتدخل منه إلى البحر المتوسط عبر قناة السويس، ولكن من خلال الإبحار حول أفريقيا والوصول إلى الموانئ الأوروبية الواقعة على المحيط الأطلسي".
إعادة تنظيم الخدمات اللوجستية
ورأى أرنولدي، في تصريحات خاصة للصحيفة ذاتها: "إننا بصدد إعادة تنظيم لسلاسل اللوجستيات والتجارة العالمية: فالموانئ العربية على البحر الأحمر والموانئ الأوروبية على البحر المتوسط تضررت بشكل كبير، بما في ذلك الموانئ الإيطالية جنوة وليفورنو وجويا تاورو"، مشيراً إلى أن "المستفيد من هذه الأوضاع، ولو بشكل هامشي، هي بعض الموانئ الأوروبية المطلة على المحيط الأطلسي، خاصة في شمال أوروبا، مثل لوهافر وروتردام وهامبورغ وبريمن".
خسائر التجارة العالمية
والحقيقة أن الجميع يخسرون بشكل أو بآخر من أزمة البحر الأحمر. وعلى سبيل المثال فإن مسار الصين - الاتحاد الأوروبي تقطعه السفن الآن في ضعف الوقت تقريباً، في حين أن المسار بين منطقة اليورو والهند بات أكثر من الضعف من حيث الوقت. وبالتالي، توجب على الشركات تخصيص مزيد من السفن، وإنفاق مزيد من الأموال على الوقود والموظفين.
وفيما يتعلق بالسلع، أشار أرنولدي إلى أن "الأكثر تضرراً كانت تلك التي تغادر آسيا وتصل إلى أوروبا، وذلك بسبب مسألة الحجم على وجه الخصوص: فالدول الأوروبية تستورد كثيراً وتصدر بكميات أقل بكثير. ولذلك ترى الزيادة في الأسعار، خاصة على السلع القادمة من الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا. ولفت إلى أن العديد من الشركات استقطعت سفناً من الطرق الأقل ربحية -تلك التي تربط بين آسيا وأفريقيا- لتنقلها إلى المسارات الأكثر تميزاً، مثل تلك التي تربط بين الصين وأوروبا".
استبعاد الموانئ الصغيرة والمتوسطة
وأشارت الصحيفة إلى أنه قد جرى إقصاء العديد من الموانئ الصغيرة من أجل تقليل وقت السفر: في السابق، كان ثمة مسار من الشرق الأقصى يبدأ من طوكيو، ليتوقف في يوكوهاما، ثم ينتقل إلى كوريا ومنها إلى الصين وصولاً إلى موانئ، مثل شنغهاي وهونغ كونغ، ومن ثم إلى سنغافورة، ومنها ينطلق مرة أخرى نحو شبه الجزيرة العربية والبحر المتوسط وأخيراً شمال أوروبا. وأخيراً نقلت عن أرنولدي قوله: "يجري الآن استبعاد العديد من الموانئ الوسيطة الآسيوية والأوروبية، ما يعني تراجع المنتجات المتاحة في أسواق الوصول (بما في ذلك السوق الإيطالية)، مع تكلفة أعلى".
وفي سياق متصل، ذكرت صحيفة "فاميلي بيزنس فوروم" الإلكترونية الإيطالية في تقرير حمل عنوان "التكاليف زادت لأربعة أضعاف بسبب أزمة البحر الأحمر: يلزم ثورة لوجستية عالمية"، أن أزمة البحر الأحمر وجهت ضربة قوية للتجارة العالمية، حيث زادت تكاليف النقل لأربعة أضعاف مقارنة بأكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وتابعت الصحيفة أن هجمات الحوثيين على طول مضيق باب المندب، الذي تمر عبره 12% من التجارة العالمية و40% من حركة السلع بين آسيا وأوروبا، تسببت في عدم قابلية هذا المسار للملاحة. وهكذا اضطرت الشركات إلى تحويل مسار السفن لتبحر حول رأس الرجاء الصالح، ما أدى إلى زيادة وقت الرحلة حتى 10 أيام.
تحديات وفرص
ونقلت الصحيفة عن الخبير الإيطالي غابرييلى فيرّي، المدير العام والشريك المسؤول عن السفر والنقل والبنى التحتية في مجموعة بوسطن الاستشارية، قوله إن "طول أمد أزمة البحر الأحمر يمثل تأكيداً على مدى تقلب المنظومة اللوجستية العالمية ارتباطاً بالأزمات الجيوسياسية، وتُلجأ الصناعة بالضرورة إلى الاستثمار في استراتيجيات الصمود والتكيف". وأوضح أن "مستقبل المسارات التجارية بين آسيا وأوروبا يتوقف على قدرة الصناعة على انتهاج مقاربات أكثر مرونة وتكيفاً، من خلال تنويع خيارات النقل والاستثمار في تقنيات جديدة، من أجل السماح بالتحسين الحيوي للمسارات والأسعار والكفاءة الإجمالية".
وأضاف أن "هذا الوضع يلزم في الوقت ذاته المنتجين بتطوير حلول طويلة الأمد، مثل إعادة تموضع الإنتاج (كلياً أو جزئياً) والعمل على إيجاد مزيد من الدمج بين النقل البحري والجوي من أجل ضمان الاستمرارية الإنتاجية".
وكانت مجموعة بوسطن الاستشارية قد نشرت، في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، دراسة حول هذا الموضوع تحت عنوان "ما مستقبل شحن الحاويات في ظل أزمة البحر الأحمر"، سلطت فيها الضوء على التحديات والفرص الجديدة التي يتعين على قطاع الشحن البحري خوضها وسط هذه المرحلة الحرجة. وأوضحت الدراسة أن التقديرات الأخيرة تؤكد أن الحلول التي انتهجتها شركات الملاحة استُنفدت بالفعل، مع التراجع الحاد في حركة المرور في البحر الأحمر، وما تبعه من ارتفاع مأساوي في تكاليف النقل، ناهيك عن زيادة الوقت.