لماذا تعتبر الإنتاجية في الوطن العربي الأدنى من بين مناطق العالم؟ ولماذا شهدت تراجعات مخيفة خلال الفترة 2012-2022؟ وهل بالإمكان تدارك هذا الأمر عبر السياسات الاقتصادية العامة؟
هذه الأسئلة كانت مثار البحث في المكتب العربي لمنظمة العمل الدولية، والذي أصدر تقريره المهم جداً قبل عام وأربعة أشهر تقريباً ( صدر في شهر مارس/ آذار 2022). ومع أن نتائجه تستدعي التوقف عندها من قبل جميع المسؤولين في القطاعين العام والخاص، إلا أنه لم يحظ وسط الأنباء عن كوفيد -19، والحرب في أوكرانيا، وأسعار السلع الأساسية، وحرب العملات، إلا بالقليل من الاهتمام في الوطن العربي.
والوطن العربي عادة مهووس بالأرقام الكبيرة، والتي تسمى أرصدة (Assets) أكثر من اهتمامه بالمفهوم الحَدّي، وهو التغيير في الأرصدة. فعندما نقول كلمة "رأس المال" فنحن نقصد حجم المال المكرس للإنتاج. لكن ننسى أن قياس الإنتاجية هو أمر نسبي، أي التغير في حجم رأس المال خلال مدة محددة هو الاستثمار (إن كان التغير موجباً) وَ(Disinvestment) (بيع موجودات) إذا كان المتغير سالباً.
وحتى يصبح رقم الاستثمار أكثر دلالة، فلا بد أن نسأل عن كمية الإنتاج التي أضافها ذلك الاستثمار للاقتصاد الذي وقعت فيه. ولذلك ابتدع تلاميذ الاقتصادي جون م. كينز مؤشراً يقيس إنتاجية رأس المال، وهو المعامل الحدي لرأس المال إلى الإنتاج). أو كم عدد وحدات الاستثمار الإضافية المطلوبة كي نزيد الإنتاج بوحدة واحدة. وإذا كان المعامل 1:3 فهذا يعني أن رأس المال يجب أن يزيد 3% حتى يزيد الناتج المحلي الإجمالي بنسبة واحد في المائة. أما إذا وصل هذا المعامل إلى (1:5) أو إلى (1:7) فهذا يجعل الاستثمار الإضافي مكلفاً، ويتطلب تمويلاً أعلى، ويرفع من كلفة الإنتاج الإضافي.
وطور الاقتصاديون مقياساً لإنتاجية العمل وليس رأس المال فحسب، ولذلك فهم يقيسون معدل الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل مبذولة، ووفقاً لهذا القياس، ومن بين الدول التي أجري لها هذا القياس، تبين أنه لا يوجد ولا دولة عربية واحدة ضمن أعلى ( 61) دولة في العالم. وقد جاءت لوكسمبورغ الأولى بفارق واضح عن الدولة الثانية وهي أيرلندا. هناك أسباب واضحة لهذا الأمر، وهو أن لوكسمبورغ تركز على الخدمات المالية حيث العمالة المطلوبة قليلة لإدارة مبالغ مالية كبيرة. لكن المدهش أنّ دولة أيرلندا تأتي في المرتبة الثانية.
وإذا عدنا إلى الوطن العربي، وإلى دراسة المكتب الإقليمي لمنظمة العمل الدولي سترى أن الدول العربية التي غطتها الدراسة هي دول مجلس التعاون الخليجي الست، بالإضافة إلى كل من الأردن، وفلسطين المحتلة، وسورية والعراق واليمن، أو إحدى عشرة دولة. ويبرز التقرير الذي غطى تطور الإنتاجية العمالية (الناتج المحلي الإجمالي لكل ساعة عمل) منذ العام 1950-2022. وهي بالفعل مدة طويلة. ولكن السلاسل الزمنية الدقيقة غطت فترة القرن الحادي والعشرين.
وتبين الميول (Trends) للإنتاجية في المنطقة العربية أن إنتاجية العمل قد تراجعت منذ ثمانينات القرن الماضي، وفي دول الخليج بشكل خاص. وقد زادت حدة تراجع الإنتاجية بشكل أكبر خلال العقدين الأخيرين من هذا القرن. وقد وجد التقرير أن الإنتاجية تراجعت خلال العامين 2019 وَ2020 في دول مجلس التعاون بنسبة 8%، وبنسبة (1.5%) في الدول الخمس الأخرى. أما الدول الناهضة (emerging) والنامية (developing) في مناطق أخرى في العالم فقد ارتفعت نسبة الإنتاجية فيها خلال نفس الفترة.
ويعزو التقرير أسباب تراجع الإنتاجية العمالية في الوطن العربي إلى أمور أساسية من أهمها ضعف إرادة التنويع الاقتصادي، فقد بقيت حتى عام 2020 مركزه على تصدير المواد الخام والسلع الزراعية أو النفطية، ونقص التنويع يقلل من فرص الإنتاج من ناحية، ويزيد من عدد العاملين ممن يطلق عليهم لقب البطالة المقنعة. ولذلك وجب الانتقال من الزراعة وإنتاج المواد الخام إلى التصنيع.
وكذلك، فإن معظم الدول تختار إنتاج خدمات ذات قيمة مضافة قليلة، أو أن معظم انتاجها يتكون من مستوردات من الخارج. وهذا العنصر يساهم في تهبيط الإنتاجية لأنه يقلل من الناتج المحلي الإجمالي الصافي لكل ساعة عمل.
ويمسح التقرير آراء كثير من رجال الأعمال، فقد اشتكى غالبيتهم من أن البيئة الاستثمارية معوقة، وأن الإطار التشريعي والإدارات الحكومية قليلة الكفاءة نسبياً، وانتاجيتها قليلة، وهذه تَفُتُ في عَضد إنتاجية الأعمال في القطاع الخاص.
ولكن هذا لا يعني أن هيكلية القطاع الخاص في الدول العربية خالية من العيوب والمشاكل، ويبين التقرير أن أكثر من 95% من الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم (SME’s) هي شركات أسرية محافظة تقوم على العلاقات الأسرية في اختيار العاملين فيها أكثر مما تقوم على حسن اختيار الأشخاص الأكفأ لإدارتها.
ولكن ما يعطي الأمل في التقرير بأن هذا التدني في الإنتاجية يمكن تجاوزه إلى مستويات أعلى يأتي من التجربة السعودية في عامي (2021) وَ (2022). وقد أصدرت منظمة العمل الدولية تقريراً وبياناً إعلامياً في شهر مارس/ آذار من هذا العام 2023 تقول فيه إن السعودية حققت خلال عام 2022 أكبر قفزة من بين دول مجموعة العشرين ( G-20) ودول العالم كلها، وبالطبع ستكون أعلى زيادة في الوطن العربي. حيث وصلت إلى نمو قدره (4.9%) شمل معظم قطاعات الدولة بمعدلات متباينة وصل فيها المعدل المرجح هذه النسبة المحترمة بينما حققت معدلاً فاق (4%) في عام 2021.
وبالطبع، فإن التقرير الصادر عام 2022 واشتكى من تدني نسبة الإنتاجية وتراجعها في الوطن العربي حتى عام 2020 أعطى أن أهم الأسباب لذلك هو ما سبق وأشرت إليه في هذه المقالة. ومن هذه عدم وجود استراتيجية تنموية واضحة، والمعوقات للاستثمار، وعدم تنويع الاقتصاد أو التحول نحو الصناعة والخدمات ذات القيمة المضافة العالية، وعدم تحسين بنية الأعمال عن طريق منح التسهيلات، وعدم محاربة الفساد والتآكل في مداخيل الدولة الضريبية، وعدم التحول التدريجي من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي. وتحقيق هذه الرفعة الواضحة في الإنتاجية السعودية تعني أن معدل الكلفة بدأ يتراجع، وتعني أن تنافسية الاقتصاد السعودي تخطو بثقة أكبر وتحقق معدلات نمو اقتصادية أعلى.
كل هذه الخطوات ساعدت في بناء طاقة استيعابية توظيفية جديدة في الاقتصاد السعودي، وفسحت المجال أمام الطاقات الشبابية أن تستثمر، وفتحت الطريق أمام الاستثمارات ومكنت المرأة حيث تكمن طاقات هائلة لم يكن مسموحاً لها أن تشارك في الإنتاج وانشاء الأعمال، وهكذا حلت مفاهيم المخاطر الجديدة والابداع، وتحويل العلاقات الأسرية غير الرسمية في الشركات الصغيرة والمبتدئة إلى علاقات رسمية تقوم على الإنجاز وحسن الأداء وتحقيق النتائج المرجوة والحرص على جودة المنتج وإتقانه.
كل هذه الممكنات هي التي أحدثت في المملكة العربية السعودية تلك القفزة النوعية، هذا النجاح خلال عامي 2021، 2022 واضح أنه مستمر بقوة عام 2023 ويخلق تحدي الاستمرار والبناء عليه في المستقبل. وقد خففت المملكة من إجراءات السفر، ومن قيود الكفيل وتنكيله بغير المقيمين من المستثمرين، وجذب المملكة كفاءات كثيرة موجودة إما في السعودية أو في الدول المجاورة والتي يجري تكليفها (outsourcing) بالقيام بأعمال متميزة لصالح الاقتصاد السعودي. وبهذا الشكل تمكنت من جذب الكفاءات إليها جسدياً وافتراضياً.
هل في إمكان الدول العربية الأخرى أن تحذو حذو السعودية في هذا المجال؟ دولة قطر فعلت ذلك وسجلت لنفسها إنجازات واضحة منذ سنوات المقاطعة حتى الآن، وتمكنت من تنويع اقتصادها واستثماراتها الخارجية. ودولة الامارات صارت تنظر إلى نفسها أنها من الدول المؤثرة خليجياً واقليمياً ودولياً. وكذلك تسعى سلطنة عُمان ومملكة البحرين لذلك. أما دولة الكويت صاحبة المبادرات الأولى، فبحاجة إلى أن تخرج من الأمر الذي أحدثه احتلالها عام 1990 وما تلاه من تطورات سياسية واقتصادية وديمغرافية وإنتاجية.
ومن الدول التي حققت إنجازات واصطدمت بحاجز عدم كفاية التمويل مصر، التي أنجزت كثيراً. ولربما تحتاج الدولة هناك إلى فتح أبواب أوسع أمام الشباب والنساء، وتمكينهم من بدء مشروعات قابلة للنمو في اقتصاد يتمتع بطلب عال.
أما الدول التي عانت من الخلافات، ومن ضياع جيل بأكمله في الصراع والحروب، مثل العراق وسورية واليمن وليبيا فهي بحاجة إلى تجاوز الخلافات الطائفية وفتح الباب على مصراعيه للجميع للاستثمار والتجديد والابداع وتمكين مواطنيها اللاجئين من العودة إليها.
والأردن الذي وضع رؤيا تنموية، ووضح معالمها، فهو بحاجة إلى الخروج من أزمة وضع القيود إلى فتح الأبواب، والتخلي عن سياسة أن أفضل وسيلة لمنع الطلاق هو منع الزواج. آن للأردن أن يرفع القيود التي تعمق شك المحكوم بالحكومة، وأن يأخذ مساراً أكثر رفقاً بالاستثمار وتنويعاً له. وهي قادرة بسهولة على ذلك. أما فلسطين فهي قصة بحد ذاتها وتحتاج إلى مقال منفصل.