يتوقع مراقبون أن تلعب المعادن الاستراتيجية دوراً رئيسياً في التنافس الشرس بين أميركا وتحالف "بكين ـ موسكو" على تشكيل" النظام العالمي" الجديد وربما تثير العديد من الحروب في أفريقيا وأميركا اللاتينية. وتتشكل المعادن الاستراتيجية من "المعادن الحرجة والنادرة" التي تدخل في التقنيات عالية الدقة، وعلى رأسها الشرائح الإلكترونية فائقة السرعة، وتضم الذهب واليورانيوم الذي يدخل في توليد الطاقة النظيفة، في وقت يبحث فيه أيضا تحالف "بكين موسكو" عن إنشاء "العملة البديلة" للدولار.
وتعد "حروب المليشيات" الدائرة في أفريقيا لخدمة مصالح القوى العظمي والحرب الروسية في أوكرانيا مقدمة لبناء النظام العالمي الجديد الذي تسعى إليه العديد من الدول التي تضررت من نفوذ الدولار في التجارة العالمية. وبينما يتبنى تحالف "بكين ـ موسكو" استراتيجية لإنشاء "نظام متعدد الأطراف" تعمل واشنطن وحلفاؤها في أوروبا وآسيا على الحفاظ الحالي القائم على الدولار، والتفوق التقني، والعسكري والمالي.
في هذا الشأن، يرى مدير معهد باين وأستاذ السياسة العامة في كلية كولورادو الأميركية للمناجم مورغان برازيليان، في تحليل بمجلة "فورين بوليسي"، أن الولايات المتحدة بحاجة إلى إعادة النظر في سياسة إمداداتها من المعادن الاستراتيجية التي تعتمد فيها حالياً على الصين، حتى تتمكن من "كسب حرب الطاقة في القرن الواحد والعشرين". ويشير برازيليان إلى أن المعادن الاستراتيجية ستلعب دوراً مهماً في المنافسة الجيوسياسية مع الصين، لأنها ضرورية للانتقال إلى الطاقة الخضراء.
ويعتبر أن المعادن الحرجة المكونة من الليثيوم والكوبالت والنيكل والنحاس من بين أهم المعادن لبناء البطاريات والشبكات الكهربائية والمرافق الشمسية اللازمة للابتعاد عن الوقود الأحفوري. كما يعتبر خبراء أن الذهب الذي يجري التنافس عليه حالياً في أفريقيا بين أوروبا وروسيا ويشعل الحرب الدائرة في السودان، من المعادن الثمينة التي تعول عليها موسكو في "إنشاء عملة جديدة" للتجارة بديلة للدولار.
وحسب معلومات رشحت من قمة "بريكس" المقبلة التي ستعقد بجنوب أفريقيا في يونيو/ حزيران، سيدور حوار في القمة بشأن هذه العملة الجديدة التي تأمل روسيا باستخدامها في تجارة النفط بدلاً من "البترودلار". كما أن التحول العالمي الجاري حالياً من استخدام النفط والفحم الحجري الملوث للبيئة إلى الطاقة النظيفة يعتمد في جزء كبير منه على اليورانيوم الذي تملك القارة الأفريقية احتياطات كبيرة منه، وتستغلها حالياً الشركات الفرنسية.
وتسعى روسيا للهيمنة على الذهب في العديد من الدول الأفريقية التي تدير نظمها عبر "مليشيا فاغنر" إلى بناء أكبر احتياطات من الذهب بغرض إنشاء العملة البديلة للدولار. كما تعمل موسكو على الهيمنة على اليورانيوم في أفريقيا وضمها إلى احتياطات دول آسيا الوسطى التي تقع ضمن نفوذها العسكري المباشر. وعبر هذه الاستراتيجية تأمل موسكو بإحكام هيمنتها على الوقود النووي في العالم.
وترى الدول الغربية أن هيمنة روسيا على الوقود النووي تهدد مستقبل توليدها للطاقة. وحسب محلل السلع الأولية بشركة "غلوبال أكس" روبرتس كاسيلي، فإن روسيا تنتج نحو 43 في المئة من إجمالي الوقود النووي في العالم، كما أن شركة "روساتوم" تدير العديد من المفاعلات النووية التي تولد الطاقة في دول أوروبا الشرقية ودول الشرق الأوسط وآسيا. ويقول كاسيلي إن روسيا تمد الولايات المتحدة بنحو 15 في المئة من إجمالي وقودها النووي، كما تمد أوروبا بنحو 20 في المئة.
يتوقع برازيليان أن يزداد الطلب على الليثيوم وحده ثلاثة عشر ضعفًا بحلول عام 2040، ويمكن أن يصبح نقطة شائكة في التحول للطاقة الخضراء. كما أن الطلب على المعادن المهمة لا يقتصر على قطاع الطاقة فقط، إذ يتم استخدامها على نطاق واسع لتصنيع الهواتف الذكية إلى الأسلحة المتقدمة التي تعتمد على الشرائح الإلكترونية فائقة السرعة.
هيمنة الصين على معادن التقنية
تهيمن الصين حالياً على سلاسل توريد المعادن الرئيسية في صناعة التقنيات المتقدمة. وحتى الآن تم العثور على 75 في المئة من احتياطيات الليثيوم العالمية القابلة للاستخراج في الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي، حسب بيانات "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي في نيويورك. وهذه الدول تقع إلى حد ما تحت النفوذ التجاري الصيني. كما تمتلك جمهورية الكونغو الديمقراطية أكثر من نصف احتياطيات الكوبالت، ولدى إندونيسيا أكثر من 20 في المئة من احتياطي النيكل في العالم. وبغض النظر عن مكان وجود المناجم، فإن الشركات الصينية تمتلك العديد منها أو توفر لها التمويل. وذلك وفقاً لدراسة
في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية.
وفي الآونة الأخيرة، وتحديداً في العام 2020، امتلكت الصين ومولت خمسة عشر من أصل تسعة عشر منجماً للكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حسب "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي للدراسات. ولكن لا تقتصر هيمنة الصين على المناجم فقط، ولكنها تهيمن على تقنية تكرير المعادن الاستراتيجية، وحتى الشركات الأميركية ترسل إنتاجها من المعادن الأرضية النادرة إلى المعامل الصينية، إذ تسيطر الشركات الصينية على 65 في المئة من تكرير الكوبالت وحوالي 60 في المئة من تكرير الليثيوم وما يصل إلى 95 في المئة من تكرير المنغنيز. وتمنح هذه الهيمنة الصين نفوذًا على الدول صاحبة الاحتياطي وعلى الدول المتقدمة التي تستوردها.
دور التوتر العسكري في حظر الإمدادات
يحذر خبراء أميركيون من مخاطر اعتماد الولايات المتحدة وحلفائها على إمدادات الصين من المعادن "الحرجة والنادرة" وسط التوتر السياسي الجاري بين بكين وواشنطن حول تايوان وبين واشنطن وموسكو في أوكرانيا.
في هذا الشأن، لاحظ "مجلس العلاقات الخارجية الأميركي"، في عام 2010، أن الصين توقفت عن تصدير العناصر الأرضية النادرة إلى اليابان، حينما تزايد التوتر حول جزيرة سينكاكو التي يجري النزاع على سيادتها بين بكين وطوكيو.
كما تهدد روسيا دول الاتحاد الأوروبي بوقف الوقود النووي لمفاعلات توليد الطاقة النووية في حال تطور الحرب الروسية في أوكرانيا إلى ذروة جديدة، وتعتمد أوروبا بنسبة 22% من الوقود النووي لمفاعلاتها على روسيا، وهو ما يعني أن دول الاتحاد الأوروبي ستعاني من أزمة جديدة في الكهرباء تضاف إلى أزمة الغاز الطبيعي التي عاشتها خلال العام الماضي وكادت أن تؤدي إلى انقسامات داخل الكتلة الأوروبية وحدوث فوضى شعبية وسط الاحتجاجات العارمة التي اجتاحت أوروبا.
وحذر الخبير مورغان برازيليان من اعتماد الولايات المتحدة على الصين في استيراد المعادن الاستراتيجية ونصح بأن تقلل الدول الغربية اعتمادها على الصين، ولكن التنفيذ العملي لذلك سوف يستغرق وقتاً.
وتعمل الولايات المتحدة مع حلفائها في أوروبا وآسيا على تقليل نقاط الضعف المحتملة للاضطرابات في إمدادات المعادن الهامة. وربما تسمح شراكة الأمن المعدني الموقعة أخيراً للولايات المتحدة مع أستراليا وكندا والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها بتدفق الاستثمارات في البنية التحتية للتعدين في أفريقيا وأميركا اللاتينية من خلال تمويلات بنك التصدير والاستيراد الأميركي.
وحسب دراسة "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي، تتفاوض الولايات المتحدة حالياً على صفقة مع الاتحاد الأوروبي من شأنها تنسيق السياسات التي تحكم الاستثمار بالمعادن الهامة المستخدمة في البطاريات الكهربائية، كما أبرمت الولايات المتحدة اتفاقية مماثلة مع اليابان الشهر الماضي. وتسعى إدارة الرئيس جو بايدن لمضاعفة الاستثمار في المعادن الاستراتيجية، لكن خبراء يرون أن هذه الخطوات ستستغرق وقتاً، إذ إن تشغيل منجم جديد من مناجم المعادن النادرة يحتاج إلى أكثر من ستة عشر عاماً، كما أن هناك معارضة للاستثمار في بعض الولايات للتعدين والمعالجة بسبب آثارها البيئية الضارة.
وعلى الصعيد التقني، تسعى الشركات الأميركية لإحراز تقدم في تطوير بطاريات الصوديوم للاستخدام في السيارات الكهربائية، وهي بطاريات لا تتطلب الكوبالت أو النيكل كما تتطلب بطاريات الليثيوم. وتضم ولاية "وايومنغ" الأميركية أكثر من 90 في المئة من احتياطات الصوديوم في العالم.