تشكل الحوادث التي تطاول العاملين في بيئة العمل مرآة تعكس سمات سوق العمل، من بينها إهمال اشتراطات الصحة والسلامة المهنية، وارتفاع معدلات البطالة، والتي تفرض على جزء من قوة العمل، التي تزداد سنويا، القبول بأعمال خطرة تفتقد الأمان المهني والصحي والاجتماعي.
كما يشير تكرار حوادث العمل في جانب منه إلى تخلف البنى الاقتصادية، سواء من حيث طبيعة القطاعات النشطة، كأعمال البناء والتشييد، وانخفاض الطلب بالقطاعات الإنتاجية المتطورة وذات الضوابط المؤسسية التي تراعي حدا أدنى من الضوابط والاشتراطات الصحية، غير أن انخفاض الطلب على العمل بشكل عام، يعني التسابق للحصول على فرصة عمل حتى ولو احتوت على مخاطر صحية.
ويزداد الأمر صعوبة لفئات واسعة من العمال الذين لا يملكون مهارات تنافسية، وهؤلاء ينضمون لأي قطاعات تتصف بالخطورة، ويقبلون ظروف عمل مجحفة في أغلب الأحيان.
وتعتمد العديد من القطاعات الإنتاجية على المجهود البدني، كقطاعات التحجير والبناء والمناجم ومعظم الصناعات التحويلية التي ترتفع فيها نسب الإصابة، وتصنف عالميا بالأكثر خطورة من حيث إصابات العمل.
وتزداد احتمالات الإصابات في بيئة العمل مع توسع العمالة في القطاعات الخطرة، وغياب الرقابة والمتابعة لاشتراطات الصحة والسلامة المهنية، خاصة في القطاع الخاص، والذي يشمل مؤسسات بعيدة عن الرقابة ويدار بعضها بشكل عشوائي ومتخلف تقنيا.
وأظهرت الحوادث الأخيرة في مصر، ومن بينها حريق مصنعين بمدينة العبور بالقاهرة الكبرى، والذي أسفر عن وفاة أكثر من 20 عاملا، غير المصابين، قسوة ظروف العمل والمخاطر التي يعاني منها العمال، وسبقت هذه الواقعة حادثة سقوط منجم أسوان، جنوب البلاد، والتي تسببت في وفاة 40 عاملا، وسبقتها أيضا حوادث مروعة، منها حادثتا مصنعي إسمنت أسوان وكيما.
وتترجم حوادث العمل في مصر أيضا موازين القوة بين أطرافها الثلاثة، العمال ورؤوس المال والهيئات الرسمية المنظمة لقواعد العمل، والتي هي جزء من بنية الدولة، ويفترض أن تراقب سياسات الصحة والسلامة المهنية، وتضع شروط استيفائها بشكل دوري.
تظهر الحوادث الكارثية المؤلمة جانبا من واقع الطبقة العاملة المصرية، وما تعانيه من مشكلات نتيجة ضعف تنظيمها، والإهمال الذي يقابلها، سواء كان رسميا من الهيئات المعنية بأحوال العمال كالقوى العاملة ووزارة الصناعة، وتشتبك معها أدوار غائبة لهيئات كالإدارة المحلية لتحسين بيئة العمل أو أدوار لاحقة. إذ لحقت بأماكن العمل مشكلات ضخمة، كالحرائق أو التلوث والانفجارات وما تحمله من آثار تتجاوز محيط العمل أيضا.
ورغم ما تكرره الدولة بشأن الاهتمام بالعنصر البشري بوصفه أهم عناصر الإنتاج والركيزة الأساسية للارتقاء بمستوى المعيشة وتنمية الموارد البشرية لتحقيق التنمية المستدامة، إلا أن ذلك وفي ظل معادلات القوة والمصاعب التي يواجها العمال، غير قائم فعليا، وتؤشر حوادث العمل وظروفه الصعبة إلى أوجه خلل متعددة، وطبيعة الانحيازات لأجهزة الدولة التي غالبا ما تساند أصحاب الشركات والمؤسسات والذين يعنيهم في المقام الأول الربح.
عمليا تكشف حوادث العمل موقف الدولة من أصحاب العمل وما يشوب عمليات الرقابة من تكاسل، ما يديم حالات عدم المطابقة، وأحيانا الفساد والتواطؤ معه.
ومن بين ما تكشفه الحوادث واقع العمال وافتقادهم للتامين الاجتماعي والصحي، وهي سمة تلحق بمعظم مؤسسات القطاع الخاص، وحتى وإن كان قانون العمل 12 لسنة 2003 يتضمن مواد عدة تخص الصحة والسلامة المهنية، فإن تطبيقها رهن اعتبارات يصعب تطبيقها، كذلك لا تتناسب العقوبات مع المخالفات مع حجم الضرر الذي يتعرض له العمال في أغلب الأوقات.
المادة 256 تقر غرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تتجاوز 10 آلاف جنيه في حال الوفاة أو الإصابة الجسيمة. وحتى هذه النصوص وغيرها من تشريعات قانونية لا تترجم إلى قواعد حاكمة إلا في ظل حالة توازن قوى تسمح بذلك.
وتشير الأرقام الرسمية إلى تراجع نسب إصابات العمل في الفترة من 2007 إلى 2019، إلا أنه وفي المقابل يمكن الأخذ في الاعتبار أن هناك نقصا في عدد المفتشين الصناعيين، والتي أشار إليها رسميا وزير القوى العاملة محمد سعفان ومسؤولون سابقون، بالإضافة إلى ضغوط وعمليات تسوية خارج الأطر الرسمية لحوادث العمل من شأنها إخفاء الأرقام والنسب الحقيقية للإصابات، بالإضافة إلى طرق جمع الإحصائيات والبيانات، والتي تعتمد على تقارير الشركات والمنشآت الصناعية والإنتاجية المرسلة إلى مكاتب القوى العاملة، وهي تقارير نصف سنوية حسب قانون العمل رقم 12 لعام 2003 في مادته 228.
وتناول تقرير إصابات العمل خلال 2018 ما يقل عن 10 آلاف منشأة، وهو عدد هزيل بالنسبة للمنشآت الإنتاجية والصناعية في القطاعين العام والخاص وقطاع الأعمال، والتي تظهرها بيانات التعداد الاقتصادي الخامس. ورغم ضآلة عدد المنشآت التي تم رصد الحوادث فيها، فإن حالات الإصابة بلغت عام 2018 ما يزيد عن 14 ألف حالة إصابة.
ويمكن التدليل على إهمال الصحة والسلامة المهنية والفارق بين التشريع وبين تنفيذه في ما يخص السلامة والصحة المهنية، فعلى سبيل المثال أقر قانون العمل تشكيل المجلس الاستشاري الأعلى للسلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل، ونشر القرار بالجريدة الرسمية في 21 يونيو/ حزيران 2003، بينما عقد أول اجتماع له في 2010 برئاسة عائشة عبد الهادي، وزيرة القوى العاملة حينها، واجتمع المجلس للمرة الثانية برئاسة أحمد البرعي، وزير القوى العاملة، في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وذلك بعد إعادة تشكيل المجلس مرة أخرى، وضم ممثلين عن رجال الأعمال والاتحادات العمالية، ولم تنتظم الاجتماعات في ما بعد.
وفي السياق ذاته تتم إعادة إنتاج الشعارات والبرامج، كما الاستراتيجية الوطنية لتقليل إصابات العمل، والتي تطرح مع كل وزير جديد للقوى العاملة بوصفها واحدة من جهوده المتفردة، بينما تصدم المجتمع الحوادث الكارثية والمفجعة التي تطاول العمال، سواء بالحرق أو التسمم أو غيرها من إصابات تفضي إلى الموت.
يضاف إلى حجم المشكلة تواضع جهود وزارة القوى العاملة في هذا الشأن، وبدا هزيلا وتجسد أخيرا في بيان الوزير أمام مجلس النواب في يناير/ كانون الثاني الماضي، الذي لا يتناسب مع حجم المشكلات المتعلقة بالصحة والسلامة في بيئة العمل.
ولا تتوقف في كل الأحوال الخسائر على عمال المنشآت الذين يصابون، لكن هناك كلفة تخسرها الدولة بشكل مباشر في ما يتعلق بساعات العمل والإنتاج، غير التكاليف غير المباشرة والمتعلقة بمصاريف وبنود الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية، وحتى وإن كانت الإعانات والتعويضات متواضعة.
وتشير منظمة العمل الدولية إلى موت 2.78 مليون شخص بسبب وظائفهم، وتعرض 374 مليون شخص للإصابة أو المرض في حوادث مرتبطة بالعمل. وتقدر المنظمة الخسائر الاقتصادية المتعلقة بساعات العمل بنحو 4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتصل في بعض البلدان إلى 6%.
وإن كانت الدولة وأصحاب العمل لهما أدوار ومسؤولية أساسية في تأمين بيئة العمل، فإن لسلوك العمال أو ما يسمى بثقافة الصحة المهنية والتي تتشكل عبر التوعية والتدريب والتأهيل دورا هاما في الحفاظ على سلامتهم، والأدوار الثلاثة حائط ضمن عملية الحماية للحد من الخسائر البشرية والاقتصادية التي تلحق بالاقتصاد والدخل القومي كمحصلة نهائية بما فيها كلفة الإصابات والعجز عن العمل وآثارها المتسلسلة اجتماعيا واقتصاديا على الأسر.