- الطلب المتزايد على الذهب كملاذ آمن من قبل المصارف المركزية، خاصة في الصين، يهدف لتقليل الاعتماد على الاحتياطات المدولرة، مما ساهم في ربح دفتري للمصرف المركزي اللبناني بقيمة 7.7 مليارات دولار منذ بداية الأزمة الاقتصادية في 2019.
- تواجه احتياطات الذهب اللبنانية تحديات، بما في ذلك خطر الحجز في الولايات المتحدة، مما يستلزم اتخاذ خطوات لحمايتها، بما في ذلك استعادة الذهب المودع بالخارج وتحسين الإفصاح المالي للمصرف المركزي.
أظهرت ميزانيّة المصرف المركزي اللبناني ارتفاع قيمة احتياطات الذهب التي يملكها المصرف إلى حدود 21.66 مليار دولار في منتصف شهر نيسان/ إبريل الحالي، مقارنة بـ20.32 مليار دولار في بداية هذا الشهر. بهذا الشكل، حقّق المصرف زيادة في قيمة احتياطات الذهب بنحو 1.34 مليار دولار، أو بنسبة 6.6%، خلال فترة قصيرة لم تتجاوز النصف شهر.
من المعلوم أن المصرف المركزي لم يبادر خلال هذه المدّة إلى شراء أي احتياطات جديدة من الذهب، بل نتجت هذه الزيادة عن إعادة التقييم الدوريّة لاحتياطات الذهب الموجودة أصلًا، وفقًا للأسعار الرائجة عالميًا.
أي بمعنى أوضح، نتجت هذه الزيادة عن ارتفاع قيمة أونصة الذهب في أسواق العالم خلال النصف الأوّل من شهر إبريل بأكثر من 132 دولارًا أميركيًا، ما رفع قيمة الأونصة إلى نحو 2381 دولارًا بحلول منتصف الشهر.
فمنذ بداية هذه السنة، تستمر أسعار الذهب العالميّة بتسجيل ارتفاعات متتالية، وسط إقبال كثيف على المعدن الأصفر بوصفه الملاذ الآمن، في ظل الاضطرابات الجيوسياسيّة المتعدّدة.
كما يشهد الذهب طلبًا كثيفًا من جانب العديد من المصارف المركزيّة، وخصوصًا الصين، لتقليص الاعتماد على الاحتياطات المدولرة التي يمكن أن تخضع ذات يوم للعقوبات أو القيود التجاريّة الأميركيّة. أمّا التحوّط من التضخّم واحتمالات خفض الفائدة خلال هذه السنة، فساهما بدفع المستثمرين أيضًا بالاتجاه نفسه.
إلا أنّ مسار الارتفاع في قيمة احتياطات الذهب في المصرف المركزي اللبناني لم يبدأ هذه السنة. فأواخر شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل 2019، أي في بدايات الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة، لم تكن قيمة هذه الاحتياطات تتجاوز حدود الـ13.96 مليار دولار. وهذا ما يعني أن المصرف المركزي حقق ربحًا دفتريًا بقيمة 7.7 مليارات دولار جرّاء ارتفاعات أسعار الذهب منذ ذلك الوقت.
ومن المعلوم أن أسعار الذهب العالميّة كانت قد شهدت طوال السنوات الأربع الماضية سلسلة من الارتفاعات المتلاحقة، بعد الأزمة الاقتصاديّة التي طرأت بعد تفشّي وباء كورونا، ومن ثم معدلات التضخّم المرتفعة بعد فتح الأسواق وزيادة الضغط على سلاسل التوريد. وكذلك ساهمت الحرب في أوكرانيا وأزمة المصارف الغربيّة في تشجيع المستثمرين على اقتناء الذهب للهروب من حالة عدم اليقين التي خيّمت على الأسواق الماليّة.
في النتيجة، باتت احتياطات الذهب تشكّل اليوم أكثر من ثلثي موجودات المصرف المركزي السائلة أو القابلة للتسييل، حيث تقتصر قيمة الاحتياطات بالعملات الأجنبيّة على نحو 9.85 مليارات دولار فقط.
مع الإشارة إلى أنّ النظام المالي المحلّي بات عاجزًا عن استقطاب الودائع الجديدة الطويلة الأجل منذ بدء الأزمة المصرفيّة في أواخر العام 2019، وهو ما حدّ من قدرة المصرف المركزي على تلقّي توظيفات جديدة بالعملات الأجنبيّة من المصارف منذ ذلك الوقت.
كل هذا المشهد، يفرض على لبنان اليوم الالتفات إلى الخطوات المطلوبة لحماية احتياطات الذهب من أي مخاطر محتملة. إذ يعتقد كثير من اللبنانيين أنّ احتياطات الذهب محصّنة بموجب القانون الذي يمنع التصرّف بها بشكل مباشر أو غير مباشر، إلا بنص تشريعي صريح يصدر عن مجلس النوّاب. وبهذا الشكل، لا يملك أحد داخل المصرف المركزي صلاحيّة عقد أي صفقة تُفضي إلى بيع أو رهن الذهب، للتصرّف بقيمته على النحو الذي استنزف احتياطات العملات الأجنبيّة.
غير أنّ المخاطر الجديّة التي تحيط بالذهب، والتي يفترض الحذر منها، لا ترتبط بإمكانيّة التصرّف به محليًا. لفهم هذه المخاطر، من المهم الانتباه إلى أنّ نحو ثلث احتياطات الذهب مودعة في خزائن الولايات المتحدة الأميركيّة، في قلعة "فورت نوكس"، بينما أبقى لبنان على ثلثي هذه الاحتياطات في خزائن مصرف لبنان في بيروت. وهذا ما يفترض أن نلحظه بحذر شديد جدًا، بالنسبة إلى دولة متخلّفة عن سداد ديونها السياديّة منذ أكثر من أربع سنوات.
على هذا الأساس، من المتوقّع أن يحاول حملة سندات اليوروبوند، أي سندات الدين السيادي بالعملات الأجنبيّة، الحجز على احتياطات الذهب من خلال الدعاوى أمام محاكم نيويورك، التي تملك صلاحيّة البت بهذه الدعاوى بحسب عقود إصدار السندات.
كما من المتوقّع أن تطاول الدعاوى نفسها الاحتياطات بالعملات الأجنبيّة، التي أودعها المصرف المركزي في المصارف المراسلة الأميركيّة. ومن المعروف أن الدولة اللبنانيّة لا تملك أي أصول أخرى في الخارج، باستثناء الأصول الدبلوماسيّة التي تملك حصانة خاصّة.
الحديث عن مخاطر دعاوى حملة السندات، يكتسب أهميّة خاصّة في هذه المرحلة بالتحديد. فالدائنون الأجانب لم يبادروا إلى التحرّك أمام المحاكم الأميركيّة حتّى هذه اللحظة، بانتظار جمع أكبر قدر ممكن من الأوراق القانونيّة ضد لبنان، أو بانتظار الاتفاق على إعادة هيكلة الديون قبل تكبّد كلفة الدعاوى.
لكنّ عقود إصدار السندات تفرض على الدائنين المطالبة القانونيّة بالفوائد قبل مرور خمس سنوات على التخلّف عن الدفع، أي قبل شهر مالرس/ آذار المقبل، تحت طائلة خسارة هذا الحق القانوني. وهذا ما يعني أن الدخول في المعركة القانونيّة بين لبنان والدائنين بات أقرب من أي وقت مضى.
على هذا النحو، وعند بدء المطالبات القانونيّة خلال أقل من سنة، سيكون على لبنان الدفاع عن أصول مصرفه المركزي، الموجودة في الولايات المتحدة، ومنها الذهب. وبمعزل عن قدرة الدائنين على مصادرة هذه الأصول، قد يتم استخدام الدعاوى والملاحقات القضائيّة كوسيلة ضغط خلال مسار التفاوض على إعادة هيكلة الديون، لإجبار لبنان على تقديم تنازلات قبل صدور الأحكام النهائيّة.
من الناحية القانونيّة، تعطي اجتهادات محاكم نيويورك حصانة معيّنة لأصول المصارف المركزيّة الموجودة في الولايات المتحدة في وجه ملاحقات دائني الحكومات. لكن هذه الحصانة مرتبطة بقدرة المصرف المركزي على إثبات استقلاليّته الماليّة، وبانسجام عمليّاته مع المهام التقليديّة التي تقوم بها المصارف المركزيّة في العادة.
لهذا السبب، من الطبيعي أن يحاول الدائنون الأجانب تخطّي هذه الحصانة عبر التصويب على بعض الممارسات المحاسبيّة الملتبسة التي قام بها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، والتي عملت على تحويل خسائر المصرف المركزي إلى التزامات على الدولة اللبنانيّة. كما سيحاولون التصويب على بعض أعمال التحايل المحاسبي التي استخدمها سلامة لإخفاء هذه الخسائر على مدى سنوات طويلة، قبل كشفها بعد الانهيار المالي.
في مواجهة هذه المخاطر، على لبنان اتخاذ بعض الخطوات البديهيّة لحماية احتياطات الذهب التي يملكها مصرفه المركزي. ومنها على سبيل المثال بدء العمل على استعادة الذهب المودع في الولايات المتحدة، لتفادي وضعه تحت أي ملاحقات أو حجوزات قانونيّة محتملة.
كما يمكن أيضاً تقييم جدوى استخدام جزء من احتياطات العملات الأجنبيّة، المودعة في مصارف الولايات المتحدة، في عمليّات شراء للذهب، لتفادي وضع الحجوزات على هذه الاحتياطات.
وفي الوقت نفسه، من المهم بدء العمل على معالجة معايير الإفصاح المالي التي يعتمدها المصرف المركزي، مع التركيز الشديد على الفصل، قدر الإمكان، بين ميزانيّة المصرف وميزانيّة الدولة اللبنانيّة.
وبعبارة أوضح، ثمّة حاجة لإعادة النظر بخطوة تسجيل خسائر المصرف كالتزامات على الدولة اللبنانيّة، وهي الخطوة التي يمكن استعمالها للطعن بالاستقلاليّة الماليّة للمصرف المركزي. فإبقاء هذا الربط بين الخسائر والتزامات الدولة اللبنانيّة، سيفتح الباب أمام وضع اليد على أصول المصرف المركزي، من دون أن تتمكن الدولة من تسديد هذه الخسائر كما يراهن البعض.