ديون العقارات التجارية تهدد أوروبا...تعثر في السداد ينذر بتكرار سيناريو الأزمة المالية
بينما تحدق الأسواق العالمية في مؤشرات البنوك وقطاع العقارات التجارية في الولايات المتحدة خوفاً من حدوث انهيارات مفاجئة على ضوء الأزمة المصرفية التي اندلعت الشهر الماضي، فإن الضربة قد تأتي على غير المتوقع من السوق الأوروبية التي تتسع فيها شروخ السوق العقارية وسط تزايد حالات التعثر عن سداد القروض، بعد ارتفاع أسعار الفائدة، ما يهدد ديوناً تصل إلى 1.4 تريليون يورو (1.52 تريليون دولار)، ويضع القطاع المصرفي في مأزق كبير.
وبلغت مستويات تعثر سداد القروض العقارية في أوروبا أعلى مستوياتها في نحو 10 سنوات، حسبما أظهرت دراسة لشركة "ويل، غوتشال آند مانجيز" للمحاماة، ما دعا بنوك استثمار عالمية ومحللين ماليين إلى التحذير من صدمة مقبلة ستكون أشد ألماً خاصة بالنسبة لملاك العقارات.
ولطالما كانت الرافعة المالية التي توفرها البنوك سمة مركزية للعقارات التجارية، لكن المشهد يتبدل بعد إخفاقات المصارف الأخيرة في الولايات المتحدة المتمثلة في انهيار بنكي "سيليكون فالي" و"سيغنيتشر" واقتراب كيانات أخرى من حافة الإفلاس، فضلا عن انهيار بنك "كريدي سويس" السويسري الذي دفع الدولة للتدخل لإنقاذ القطاع المصرفي عبر تسهيل استحواذ "بنك يو بي إس" على الكيان المنهار.
تشديد معايير الإقراض
وبينما يحاول رؤساء البنوك المركزية وصانعو السياسات على حد سواء تقييم التداعيات الاقتصادية التي يمكن أن تنجم عن حالات الذعر المصرفي تلك، فإن قطاع العقارات التجارية يترقب بالفعل تداعيات من نوع خاص.
فقد كانت حالات التخلف عن سداد أجور المكاتب التجارية في ارتفاع مع تعرّض الملّاك لضغوط ارتفاع معدلات الشغور، وانخفاض قيم العقارات، وارتفاع أسعار الفائدة، وهذا كلّه قبل الإخفاقات المصرفية حتى. وسيزداد ذلك حدة إذا أدت مشاكل البنوك إلى تشديد المقرضين معايير الإقراض الخاصة بقروض العقارات التجارية، وفق محللين، منهم باحثون في كلية بايز للأعمال التجارية في جامعة سيتي في لندن.
واتخذ المحللون في بنك "مورغان ستانلي" الأميركي اتجاهاً تشاؤمياً لمستقبل العقارات التجارية، متوقعين في مذكرة لهم "انخفاضاً حاداً في قيمة قروض العقارات بنسبة قد تصل إلى 40%"، وإنه سيكون أسوأ من الانخفاض الذي شوهد خلال الأزمة المالية العالمية في 2008.
وبسبب ارتفاع أسعار الفائدة وانتهاء حقبة الأموال السهلة، تعاني العديد من أسواق العقارات حالة من الجمود، في ظل مطالبة بعض البنوك للمقترضين ببيع الأصول، أو المخاطرة بالحجز على العقارات محل الرهن، مع مطالبة الملاك بدفعات إضافية من رأس المال.
في مدينة فرانكفورت، وسط ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، قام الملاك الكوريون لبرج تريانون المكون من 45 طابقًا بتعيين مستشارين لبدء إعادة هيكلة 375 مليون يورو من الديون. كما عرضت شركة تشيونغ كي الصينية مبنيين في منطقة "كناري وارف"، إحدى أشهر مناطق المال والأعمال في لندن، للبيع لتقليل عبء ديونها. كما تخلفت مجموعة بلاكستون، أكبر مستثمر عقاري تجاري في العالم، عن سداد قرض مضمون بمحفظة عقارية في فنلندا الشهر الماضي.
وقال مارك بلادون، رئيس قسم العقارات في صندوق الاستثمار "إنفستيك"، وفق صحيفة فاينناشال تايمز البريطانية: "يمكنك بالتأكيد رؤية الشقوق بدأت تحدث".
والسؤال الذي يثير قلق المستثمرين هو عما إذا كانت حالات التعثر سوف تتسارع لتصل إلى حد أزمة على مستوى القطاع مثل تلك التي شهدها العالم في 2008 و2009، وتلحق أضراراً جسيمة بالبنوك الأوروبية. وقبل الأزمة المصرفية الأخيرة حذر البنك المركزي الأوروبي في تقرير رقابي، في فبراير/ شباط، من "نقاط الضعف المتزايدة" في أسواق العقارات.
شقوق في القطاع المصرفي
وبينما لا تتوقع نيكول لوكس، الباحثة في كلية بايز للأعمال في لندن، أن تؤثر المشاكل في العقارات التجارية على النظام المصرفي كما حدث في الأزمة المالية العالمية، يخشى بعض المستثمرين من أن يكون العكس هو الصحيح.
ويرى متخصصون في القطاع العقاري أن هناك فارقا حيويا بين الماضي والحاضر وهو مسار تكاليف الاقتراض. فمع تهديد النظام المالي العالمي بالانهيار في عام 2008، خفضت البنوك المركزية أسعار الفائدة ثم أغرقت أسواق المال بالنقد الطارئ، وقد جعل ذلك من السهل نسبياً على الملاك المثقلين بالديون انتظار انتهاء الأزمة. كما كانت البنوك حريصة على تجنب المزيد من الخسائر التي من شأنها أن تزيد من تآكل رأس مالها، بل وسعيدة في كثير من الأحيان بتمديد تسهيلات الاقتراض.
لكن هذه المرة أدى التضخم المرتفع بعناد إلى استمرار البنوك المركزية في دفع تكاليف الديون إلى أعلى، على الرغم من الشقوق في القطاع المصرفي والضغوط على العقارات التجارية.
وتشير كلية بايز للأعمال في دراسة لها إلى أن كلفة الاقتراض مقابل العقارات الرئيسية في أوروبا تضاعفت على أساس سنوي. ويتوقع بعض خبراء الصناعة أنه في مواجهة الزيادات الحادة في تكاليف التمويل الخاصة بهم، ستكون البنوك أقل ميلاً لإظهار الصبر تجاه المقترضين المتعثرين.
أول من يتكبد الخسائر سيكون أصحاب مباني المكاتب ذات الدرجة الأدنى، وفق ريموندو أمابيل، كبير مسؤولي الاستثمار في PGIM real estate، مضيفا: "إنهم يواجهون عاصفة كبيرة تتمثل في ضعف الطلب الأساسي على المساحة، وارتفاع تكاليف البناء والصيانة، وقلة المشترين أو المقرضين المحتملين، وأسعار الفائدة المرتفعة".
ووفق أحد المستثمرين الأميركيين في العقارات الأوروبية، فإن المستأجرين يقبلون على مساحات أصغر ومبانٍ أفضل، ما يدفع إلى انخفاض أسعار العقارات التجارية غير المرغوب فيها بنسبة تزيد عن 50%.
محادثات مؤلمة مع الدائنين
كل الرياح المعاكسة وعدم اليقين تجعل من الصعب العثور على مستثمرين لديهم الثقة لشراء مكاتب أو إقراض أصحابها. "السؤال الكبير الذي يطرحه الجميع هو: ما هي قيمة المكتب؟"، وفق إيزابيل سيماما، المسؤولة في مجموعة التأمين الفرنسية "أكسا". فعندما تبدأ القيم في الانخفاض بشكل جدي، سيخضع المقترضون إلى شروط المقرض بشأن نسبة القرض إلى القيمة وأسعار الفائدة. وقد يؤدي ذلك إلى محادثات مؤلمة مع الدائنين، وخاصة أن القروض القديمة شارفت على الانتهاء وتحتاج إلى إعادة تمويل بقروض أكثر كلفة بكثير.
وفي هذا السياق، أصدرت مؤسسة "ستاندرد أند بورز" للتصنيف الائتماني أخيراً تقريراً عن آفاق قطاع العقارات في أوروبا، تضمن توقعات باستمرار تراجع أسعار المنازل في أغلب الدول الأوروبية خلال 2023 و2024.
ويتأخر سداد قرض واحد من كل 10 قروض للشركات في أوروبا، وسط تزايد المخاطر الائتمانية، وفقاً لتقرير صادر عن شركة "جونز لانغ لاسال" للوساطة العقارية.
وقال إيان غوثري، كبير المديرين في الفريق الاستشاري للقروض في جونز لانغ لاسال: "يتزامن الانكماش الحالي مع مجموعة استثنائية من الظروف الاقتصادية. وبدلاً من تخفيف معاناة الشركات العقارية وغيرها، رفعت البنوك المركزية أسعار الفائدة، وهو الأمر الذي يزيد من احتمال تعثر القروض، في ظل تعرض قيمة العقارات والسيولة المتاحة للضغوط"، مضيفا، وفق وكالة بلومبيرغ الأميركية، أن "هذا هو الوقت الذي ستبدأ فيه المشكلات بالظهور".
في السياق، قال أندرياس دومبريت، الذي عمل سابقاً عضواً في مجالس إدارة البنك المركزي الألماني، وبنك التسويات الدولية، إن العقارات التجارية، مثل المكاتب ومراكز التسوق، أكثر حساسية للظروف الاقتصادية مقارنةً بباقي أنواع العقارات، مشيراً إلى أنه "عندما انفجرت الفقاعة من قبل، كان الأمر يرتبط في الغالب بالعقارات التجارية".
ولا شك في أن تراجع التداولات العقارية ومعدلات تطوير العقارات التجارية والسكنية، سينعكس على الإنفاق في الاقتصاد الحقيقي، ما قد يهدد نمو الاقتصاد وخلق الوظائف. وفقاً لجمعية العقارات العامة الأوروبية، ساهم قطاع العقارات التجارية في الاتحاد الأوروبي في إجمالي الناتج المحلي المجمع بأكثر من 15.3 تريليون دولار في عام 2021. بالإضافة إلى ذلك، كان لدى القطاع 177 صندوقاً للاستثمار بقيمة سوقية مجمعة تبلغ 133 مليار دولار.
واعتبر كريس هيوز، المحلل الاقتصادي، في مقال نشره في بلومبيرغ، أن يوم الحساب حل على شركات العقارات عالية الاستدانة في أوروبا، حيث تخضع ميزانياتها العمومية للضغط، ويتخذ رؤساؤها إجراءات دفاعية، مع انخفاض قيم العقارات في ظل ارتفاع تكاليف الاقتراض.
ديون العقارات التجارية تبلغ 1.4 تريليون يورو
في الأثناء، توقع تقرير لوكالة بلومبيرغ أن تعاني البنوك وسط تزايد مخاطر تعثر المقترضين في سداد ديونهم نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة، مشيرا إلى أن بنوك شمال أوروبا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا هي الأشد عرضة لهذه المخاطر، حيث إن إجمالي القروض العقارية المعرضة لخطر تراجع قيمتها لدى أكبر 20 بنكاً أوروبيا يبلغ حوالي 550 مليار يورو.
وأضاف أن ارتفاع أسعار الفائدة ومعدل التضخم في أوروبا مع تراجع النشاط الاقتصادي جعل قروض القطاع العقاري خطراً كبيراً بالنسبة لميزانية البنوك، في الوقت الذي يقيم فيه المستثمرون مصدر المخاطر المحتملة المقبلة.
وتعتبر العقارات في شمال أوروبا في مقدمة عملية تصحيح الأسعار، نظرا لآن أصحاب العقارات كانوا يستخدمون قروضا قصيرة الأجل نسبيا. وبحسب بيانات الهيئة المصرفية الأوروبية، فإن إجمالي القروض العقارية التجارية لدى البنوك الأوروبية يبلغ نحو 1.4 تريليون يورو، بما يعادل 6.4% من إجمالي قروض هذه الأسواق.