في خطاب النصر الذي ألقاه الليبرالي خافيير ميلي الذي فاز بالانتخابات الرئاسية في الأرجنتين، قال "اليوم تبدأ نهاية الانحطاط" وتنطلق "إعادة إعمار الأرجنتين" وجعلها "قوة عالمية" في غضون 35 عاماً، لكن تحقيق هذا الأمر لن يكون سهلاً على ما يبدو، إذ قد يزداد وضع البلد المنهار اقتصادياً سوءاً في ظل توجهاته التي تثير الانقسام.
يواجه ميلي (53 عاماً)، وهو اقتصادي يصف نفسه بأنه "رأسمالي فوضوي"، سلسلة تحديات اقتصادية لإعادة النهوض بالقوة الثالثة في أميركا اللاتينية. وسيكون عليه مواجهة التضخم القياسي ومصاعب اقتصادية متعددة، وصولاً إلى قضايا الحوكمة والعدالة والسلم الاجتماعيين.
صعد ميلي إلى الشهرة من خلال مهاجمة الطبقة السياسية في البلاد على شاشات التلفاز، والآن ربما يُظهِر أول زعيم ليبرالي حقيقة فكرة مفادها أن الانتقاد أسهل من الفعل، وفق تقرير لمجلة "إيكونوميست" البريطانية، مشيرة إلى افتقاره إلى القوة السياسية، جنباً إلى جنب مع عمق المحنة التي تعيشها الأرجنتين، ما من شأنه أن يجعل من الصعب عليه أن يحقق وعوده الكبرى.
فقد تعهد بخفض الإنفاق العام بما يصل إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي (من 38% حالياً)، وخفض ضرائب التصدير، وخصخصة أغلب الشركات المملوكة للدولة. ويريد تقليص عدد الوزارات الحكومية من 18 إلى ثماني وزارات والتوجه نحو سعر صرف موحد.
ويقول إن البنك المركزي في البلاد ليس سوى آلة يستخدمها السياسيون "المحتالون" لطباعة النقود، وبالتالي لا بد من إغلاقه. ومن أجل القضاء على التضخم، يقترح ميلي استبدال البيزو بالدولار الأميركي، وهي العملة التي يفضل معظم الأرجنتينيين الادخار بها.
ليس هناك شك في أن هناك الكثير مما ينبغي القيام به لتغيير مسار الأرجنتين. وفي ظل إدارة ألبرتو فرنانديز المنتهية ولايتها، ارتفع التضخم السنوي من 54% في ديسمبر/كانون الأول 2019 إلى 143% اليوم. وارتفعت نسبة الفقراء من 36% إلى 40%.
كما جرى فرض أو زيادة نحو 32 ضريبة، كما تم اختراع العديد من أسعار الصرف الجديدة، الأمر الذي جعل الاستثمار معقداً إلى حد كبير. كذلك فإن الأرجنتين مدينة لصندوق النقد الدولي بمبلغ 43 مليار دولار.
ومع ذلك، فمن أجل خفض الإنفاق العام بالقدر الذي وعد به ميلي، سيتعين عليه أن يلمس الأجزاء الأكثر حساسية في اقتصاد الأرجنتين، وفق تقرير "ايكونوميست".
وقد ذهبت معظم الزيادة في الإنفاق نحو معاشات التقاعد، التي تنفق عليها الدولة نحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي حصة مماثلة لتلك التي تنفقها الدول الأكثر ثراءً مثل ألمانيا وفنلندا.
ويتم إنفاق 2.5% أخرى من الناتج المحلي الإجمالي كل عام على دعم النقل والمرافق. لذا فإن خفض معاشات التقاعد وإعانات الدعم من شأنه أن يلحق الضرر بالفقراء في الأرجنتين في الأمد القريب.
كذلك إذا أصر الرئيس الجديد للأرجنتين على خطته غير المحدودة لـ"دولرة" الاقتصاد فقد يؤدي ذلك أيضًا إلى ارتفاع التضخم أو ربما حتى التضخم المفرط، حيث يتخلص الأرجنتينيون من البيزو بأعداد كبيرة، وفق أليخاندرو فيرنر، المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي.
وحذر فيرنر من أن الأرجنتين ليس لديها ما يكفي من الدولارات لدفع ثمن كل البيزو المتداول والمحتفظ به في البنوك، وأن الدائنين الدوليين وصندوق النقد الدولي لن يقرضوا الأرجنتين دولارات لتنفيذ خطة محفوفة بالمخاطر.
وإذا انهار الوضع الاقتصادي، فقد تتبعه اضطرابات اجتماعية. ويقول لوكاس لاتش، الخبير الاقتصادي في بوينس آيرس: "الشك الرئيسي بشأن ميلي هو أن فريقه، وبخاصة رئيس البنك المركزي ووزير الاقتصاد المستقبليان يوافقان على فكرة الدولرة".
وكثيراً ما يضع ميلي نفسه الأيديولوجية قبل السياسة السليمة، وفق المجلة البريطانية. فقد وصف الصين بأنها "قاتلة"، ووصف الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بأنه "شيوعي". ويقول إنه لن يلتقي الرئيس الصيني شي جين بينغ أو لولا دا سيلفا خلال وجوده في منصبه، على الرغم من أن الصين والبرازيل هما الشريكان التجاريان الرئيسيان للأرجنتين.
والحصول على دعم من الكونغرس الأرجنتيني وتنفيذ ما يسمى بخطة "الدولرة" قد يكون مليئا بالتحديات، وفق تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، مشيرة إلى أن البلدان الأخرى التي اعتمدت الدولار تعد أصغر بكثير، مثل السلفادور.
وبجانب التحديات التي سيواجهها في الكونغرس، يمثل القضاء عقبة رئيسية أمام خطط ميلي للدولرة والاستغناء عن البيزو الذي وصفه خلال حملته الانتخابية بأنه "قمامة ليست مفيدة حتى كسماد".
وفي سبتمبر/أيلول، صرح قاضي المحكمة العليا هوراسيو روساتي لصحيفة "إلبايس" الإسبانية أن استبدال البيزو بعملة أجنبية سيكون غير دستوري وينتهك السيادة الوطنية.
كما قال الاقتصاديون في بنك غولدمان ساكس الأميركي: "كما هو الحال مع كل شيء في الاقتصاد، لا يوجد غداء مجاني، وقد يكون تبني الدولرة والحفاظ عليها والاستفادة منها أمراً صعباً".
وإذا تبنت الأرجنتين الدولار، فإنها ستنضم إلى حفنة من الدول الصغيرة الأخرى في المنطقة التي تستخدم الدولار، بما في ذلك الإكوادور والسلفادور وبنما.
وقد وفرت الدولرة لتلك البلدان الاستقرار الاقتصادي من خلال السيطرة على التضخم وخفض أسعار الفائدة، بينما جعلت في الوقت نفسه من المستحيل على الحكومات طباعة النقود لتغطية فجوات الميزانية.
وفي الإكوادور في أوائل عام 2000، أعلن الرئيس جميل معوض عن الدولرة وسط أزمة مالية وحشية أشعلتها فيضانات مدمرة أتت على إنتاج وتصدير الموز الرئيسي. لكنه ما يزال يواجه أزمة مالية وتخلفاً عن سداد ديونه آخر مرة في عام 2020. كما أن السلفادور مثقلة بالديون.
ويقول الاقتصاديون إنه بدون عملتها الخاصة، ستفتقر الأرجنتين إلى الأدوات النقدية اللازمة لتخفيف الصدمات الخارجية. وقال مارتن كاستيلانو، رئيس قسم الشؤون اللاتينية في معهد التمويل الدولي ومقره واشنطن لصحيفة وول ستريت جورنال: "لا تتمتع الأرجنتين بالمرونة اللازمة لاستيعاب الصدمات مثل الانخفاض الحاد في أسعار الصادرات، وتقلب أسعار المنتجات الزراعية، وارتفاع أسعار النفط، وتأثير الحرب على الطلب على الصادرات، وعدم الاستقرار السياسي الذي يؤدي إلى سحب الودائع".
ويقول محللون إن الأرجنتين ستحتاج إلى اقتراض نحو 30 مليار دولار لتحويل اقتصادها إلى الدولرة، بينما هي معزولة بشكل أساسي عن أسواق رأس المال. وقد يكون هذا المبلغ أقل إذا تعرض البيزو لتخفيض أكبر في قيمته. ومع ذلك، يقول الاقتصاديون إن ذلك من شأنه أن يزيد من مخاطر التضخم المفرط.
وفي ظل سعر صرف رسمي يعدّ غير واقعي (369 بيزو للدولار)، يمكن للأوضاع أن "تخرج عن السيطرة" من الآن وحتى تنصيب الرئيس الجديد رسمياً في 10 ديسمبر/ كانون الأول المقبل. ووفق المحللة الاقتصادية آنا إيباراغيري، تدخل البلاد الآن "مرحلة من عدم الاستقرار" قد تتمثّل في خفض قيمة البيزو أو تضخم حاد.