يهدد الصراع الدولي على الموارد الاقتصادية والموقع الاستراتيجي للسودان تطلعات الشعب لبناء نظام ديمقراطي في البلاد، إذ تتجه الحكومة الروسية لاستغلال العزلة الدولية التي يعاني منها المجلس العسكرى الحالي لمنحه الغطاء الأمني مقابل التوقيع على حزمة أمنية اقتصادية شاملة تمنح موسكو حرية التنقيب عن الذهب والمعادن واستغلال النفط والغاز الطبيعي وبناء قاعدة بحرية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر شرق البلاد.
وكان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، وافق خلال لقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 في مدينة سوتشي الروسية على هذه الحزمة.
في هذا الشأن، قال خبير مجلس الشؤون الدولية الروسي، كيريل سيميونوف، لصحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية القريبة من الكرملين في وقت سابق من ديسمبر/ كانون الأول الجاري: "يشعر الجناح العسكري في القيادة السودانية بالتهديد من فرض العقوبات الغربية والتدخل الخارجي المحتمل في البلاد، لذلك فهم مضطرون للبحث عن نقاط ارتكاز جديدة يمكن أن تكونها روسيا أو الصين".
وأضاف :"أصبحت لدى القادة العسكريين في السودان مصلحة أكبر في مشروع القاعدة العسكرية الروسية في البحر الأحمر، من أي وقت مضى، والتي يمكن استخدامها كعامل يمنع التدخل الخارجي المحتمل".
وبحسب سيمونوف، فإن تدهور العلاقات بين الخرطوم وواشنطن قد يفتح آفاقاً إضافية لعمل الجهات الروسية غير الحكومية في السودان. ويقصد بذلك الشركات الروسية والمليشيات العسكرية التي تستخدمها روسيا في المهمات غير المشروعة مثل " مرتزقة فاغنر"، التي دربت بعض وحدات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع على كيفية قمع المظاهرات ضد الانقلاب العسكري في السودان.
وحسب الصحيفة الروسية، يتوقع العسكريون الروس عقد جولة جديدة من المفاوضات المباشرة مع قادة الانقلاب العسكري في السودان بشأن تنفيذ الاتفاق الثنائي على إنشاء القاعدة لبحرية الروسية في البحر الأحمر.
ولدى روسيا عدة شركات تعمل على التنقيب عن الذهب والمعادن الأخرى في السودان على رأسها شركة "ميرغولد" التي تعمل في ولايتي النيل والشمالية. وتم منحها امتيازا في 27 أكتوبر/ تشرين الأول في العام 2017 وكذلك شركة كوش الروسية، من قبل حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير.
ومنذ انسحاب روسيا من أفريقيا بعد سقوط وتفكك الإمبراطورية السوفييتية في التسعينات، تبحث موسكو عن استعادة نفوذها الجيوسياسي في أفريقيا. ويرى تحليل بالمركز الدنماركي للدراسات الدولية، أن لدى تحالف "بكين ـ موسكو" أطماعاً واسعة في السودان الذي سيحقق لها التواجد في موقع استراتيجي على البحر الأحمر يربط بين باب المندب والمحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط.
وبالتالي تستطيع روسيا من خلاله الربط المباشر مع قاعدتها البحرية في سورية في حال حدوث توتر يمنع عبورها لخليج البوسفور بتركيا وكذلك السيطرة على مرور شحنات النفط والغاز الطبيعي والبضائع المارة عبر البحر الأحمر والعابرة لباب المندب وقناة السويس.
كما أن القاعدة البحرية الروسية في بورتسودان ستكون لها إطلالة مباشرة على السعودية ومنطقة الخليج. ويرى محللون أن الموقع الاستراتيجي لميناء بورتسودان يمنح روسيا فرصة ذهبية للدخول بشكل فعال في النزاعات الدولية. كما تسعى روسيا كذلك لإنشاء مصفاة نفط في بورتسودان ضمن مخططات الهيمنة على الموارد الهيدروكربونية بالبلاد.
في ذات الصدد تدعم الصين انقلاب البرهان على الوثيقة الدستورية وتشجع العسكر على الاستمرار في الحكم، ويقول تحليل في صحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست"، إن بكين تدعم انقلاب البرهان لأسباب اقتصادية بحتة إلى جانب تعزيز نفوذها بالحر الأحمر.
ولكن أطماع روسيا في السودان لا تنتهي عند آمال الحصول على القاعدة البحرية العسكرية في بورتسودان ومصالح التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي ومناجم الذهب واليورانيوم، ولكنها تمتد للسيطرة على المجال الجوي الواسع في السودان الذي يمتد مع حدود ثماني دول لحماية وتوسيع مصالحها التجارية بدول أفريقيا وفي تحالف تام مع الصين التي تنتج النفط في السودان وتملك مصالح واسعة في استغلال المعادن والنفط بأفريقيا.
وفي هذا الشان، ينصح شلومو بن عامي وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق في تحليل نشر مؤخرا في موقع "بروجكت سيندكت"، الحكومة الأميركية، أن"تضع عودة الديمقراطية في السودان على رأس اولوياتها". وقال إنقلاب البرهان لا علاقة له بالمبادئ وإنما يركز قادة الجيش على حماية مصالحهم الاقتصادية ومصالح شركاتهم التي تشمل الذهب والنفط وكذلك حماية أنفسهم من تهم الإبادة الجماعية في دارفور.
ويمثل السودان سوقاً مهماً لمبيعات السلاح الروسي، في هذا الصدد، تشير دراسة صدرت عن مجلة آسيا وأفريقيا توادي" الروسية، أن السودان من أهم مستوردي السلاح الروسي خلال العقدين الأخيرين. وحسب التحليل، فإن صادرات السلاح الروسية خلال حكم الرئيس المخلوع البشير بين أعوام 1997 و2017، بلغت 997 مليون دولار، كما استوردت أسلحة بقيمة 575 مليون دولار من الصين وأسلحة بقيمة 297 مليون دولار من بيلاروسيا التابعة ضمنياً لموسكو.
كذلك أعرب الجناح العسكري في الحكومة الانتقالية عن رغبته في شراء صفقة أسلحة ضخمة تتكون من مقاتلات سوخوي 30 وسوخوي 35 ونظم صواريخ " أس 300". وبالتالي فهنالك مصالح عسكرية كبيرة لدى موسكو في الحفاظ على هذا السوق المهم لتجارة الأسلحة.
وتتعامل موسكو مع الدول الأفريقية عبر سياسة تقديم حزمة "ضمانات أمنية" مقابل صفقات تجارية واقتصادية وتسهيلات عسكرية مع الحكومات الدكتاتورية والانقلابات العسكرية. وتتضمن "حزمة الضمانات الأمنية والعسكرية الروسية"، حماية هذه الأنظمة من ضغوط الولايات المتحدة والحكومات الغربية وتأمينها ضد الثورات الشعبية بواسطة الحماية المباشرة من قبل "شركات خاصة" وعلى رأسها مرتزقة شركة "فاغنر" التي تقوم بالمهمات القذرة لصالح الحكومة الروسية.
وحسب تحليل بموقع "يورو آشيا ريفيو"، فإن موسكو منذ العام 2016 تمكنت عبر سياسة "الضمانات الأمنية" للحكومات غير المستقرة من تسهيل دخول سفنها الحربية بحرية إلى موانئ السودان وإريتريا ومصر وليبيا وموزمبيق.
ويرى الخبير والباحث في جامعة أوكسفورد البريطانية، صامويل روماني، أن الدفاع المستميت لموسكو عن انقلاب البرهان على المدنيين في مجلس الأمن، يوضح اهمية السودان لتطلعات موسكو الاقتصادية والجيوسياسية في أفريقيا.
وبحسب موقع "يوروآشيا ريفيو" للدراسات، فإن موقع السودان الاستراتيجي على البحر الأحمر يضعه على مرمي الصراع الدولي بين التحالف "الروسي ــ والصيني" والولايات المتحدة في ظل القيادة العسكرية الحالية المنبوذة دولياً والمعزولة داخلياً وتبحث عن كفيل يحميها من السقوط.
وأكبر دليل على أطماع روسيا في ثروات السودان وموقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر الاهتمام الروسي الكبير للدفاع عن "انقلاب البرهان وحميدتي (نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان حميدتي)" على الوثيقة الدستورية في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وقبيل انقلاب البرهان بأسبوع على المكون المدني حذر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من التدخل الخارجي، وخص أميركا تحديداً، مشيرا إلى التدخل في الشؤون الداخلية للسودان.
وتعود علاقات روسيا بقادة المكون العسكري الانقلابي إلى العام 2017، حينما كانوا ضباطاً في اللجنة الأمنية لحكم الرئيس المخلوع عمر البشير، وبالتالي فإن لدى موسكو علاقات وثيقة بالجيش السوداني والقوات النظامية من حيث التدريب والتسليح. من جانبها فإن الشركات الصينية هي التي قامت باستثمار النفط في السودان، وكانت حتى وقت قريب تستورد نحو 5% من احتياجاتها من النفط السوداني المنتج في حقول مشتركة بين شمال وجنوب السودان.