بينما يشهد المضيق اليمني اشتعال حرب كبرى في البحر الأحمر حول عبور مئات السفن المحملة بالبضائع والسلع التي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، يشاهد سكان باب المندب هذه الحركة التجارية لعبور سفن أثرياء العالم بشكل يومي، في الوقت الذي لا يجد كثير منهم قوت يومهم، في منطقة تفتقر لأبسط الخدمات العامة.
وقفز المنفذ اليمني الاستراتيجي على البحر الأحمر إلى واجهة الأحداث المتصاعدة في المنطقة في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي والمجازر التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة، إذ أحدث قرار الحوثيين بمساندة الشعب الفلسطيني في غزة باستهداف السفن الإسرائيلية المتجهة إلى موانئها صدى واسعاً في التجارة الدولية أدى إلى سلسلة من التطورات والمتغيرات الواسعة في مسار الأحداث ومواقف كثير من الدول والشركات والقطاعات التجارية الدولية.
وكان أحدث تصعيد من الاتحاد الأوروبي الذي أعلن أول من أمس انطلاق عمليات مهمة بحرية أوروبية باسم "أسبيدس" لحماية السفن التجارية في البحر الأحمر من هجمات جماعة "الحوثي" اليمنية.
وأشار بيان صادر عن الاتحاد الأوروبي إلى أن العمليات تشمل مضيقي باب المندب وهرمز والمياه الدولية في البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب وخليج عُمان والخليج العربي.
معاناة معيشية صعبة
وفي الوقت الذي تستمر فيه الأحداث بالتصاعد في ظل مواصلة الحوثيين تنفيذ قرارهم في البحر الأحمر وباب المندب حتى يتوقف العدوان ودخول المساعدات بدون قيود أو شروط إلى قطاع غزة؛ يغفل كثيرون معاناة سكان منطقة باب المندب في منطقة "ذوباب" غربي محافظة تعز في ظل معاناة غالبيتهم من الفقر والبطالة مع محدودية الفرص المتاحة للعيش من خلال الأعمال المعتادة المتوفرة.
الناشط الاجتماعي، فيصل عبد الله، يقول لـ"العربي الجديد"، إن سكان هذه المناطق الممتدة من المخا و"ذوباب" إلى جزيرة "ميون" والمندب يرزحون تحت وطأة معيشة صعبة، إذ اعتمدت نسبة كبيرة منهم على المساعدات التي تقدمها المنظمات الإغاثية المحدودة والتي استطاعت بصعوبة الوصول إلى مثل هذه المناطق بالتعاون والتنسيق مع الجهات العسكرية المسيطرة على هذه المنطقة في الساحل الغربي لليمن.
تقع منطقة باب المندب أو مديرية "ذوباب" في الجهة الجنوبية الغربية من محافظة تعز، وتحدها من الشمال مديرية المخا، ومن الجنوب خليج عدن ومضيق باب المندب، ومن الشرق مديريتا الوازعية وموزع، والبحر الأحمر من الجهة الغربية.
كما تبلغ مساحتها ما يقرب من 1557 كيلومتراً مربعاً، في حين يقدر عدد السكان بحوالي 18.278 نسمة يتوزعون على 3.100 أسرة، ويقطنون حوالي 3.191 مسكناً، بينما يرجح ناشطون وباحثون ارتفاع عدد سكان باب المندب إلى أكثر من هذه التقديرات الصادرة بحسب آخر تعداد سكاني جرى في اليمن قبل نحو عقدين.
إهمال شديد
يرصد "العربي الجديد" معاناة سكان المندب من تردٍّ معيشي وسط انعدام الخدمات التي من شأنها مساعدة سكان هذه المناطق على مواصلة الحياة وتنمية مناطقهم وتذليل الصعوبات والتحديات التي تعترضهم في تنمية وتطوير سبل عيشهم المتاحة التي تتركز في الزراعة والصيد وتربية المواشي.
الباحث في الاقتصاد الاجتماعي كمال القرمي، يشرح لـ"العربي الجديد" أن منطقة باب المندب كغيرها من المناطق اليمنية التي تندرج تحت تصنيف النائية تعاني الإهمال الشديد ومحدودية وصول السلطات المعنية، مشيراً إلى اعتماد سكان هذه المنطقة بدرجة رئيسية على عائدات الإنتاج الزراعي ونشاط الرعي والصيد البحري.
وإلى جانب بعض الحرف المهنية اليدوية، توجد في المنطقة عدة أنشطة اقتصادية ومشروعات صغيرة محدودة، ومع ذلك فإن الحالة الاقتصادية متدنية ويشكو السكان من الفقر المدقع، حسب القرمي.
وتعد منطقة باب المندب من أهم مناطق الاصطياد البحري حيث يوجد على سواحلها عدد من المصائد المهمة والزاخرة بمختلف أنواع الأسماك، مثل "الديرك" حيث يمتهن نسبة كبيرة من سكان باب المندب الذي يتكون من ثلاث مناطق تنضوي تحت مديرية "ذوباب"؛ صيد الأسماك التي يجدون صعوبة بالغة في تسويقها لأقرب الأسواق المتاحة في محافظتي تعز (جنوب غربي اليمن)، والحديدة في الشمال الغربي.
يوضح الناشط الاجتماعي فيصل عبد الله أن "السكان العاملين في هذه المهنة يواجهون صعوبات بالغة في عملية الاصطياد البحري بسبب محدودية الجمعيات السمكية أو مراكز الإنزال والتوزيع السمكي، وهو ما يعاني منه أيضاً العاملون في مجال الزراعة وإنتاج المحاصيل الذين لا يستطيعون تسويقها لمبادلتها أو استخدام ما أمكن من عائدات زهيدة لشراء احتياجاتهم من المواد الغذائية والاستهلاكية".
أهمية المضيق
يكتسب مضيق باب المندب أهمية كبيرة للتجارة الدولية، إذ يعتبر بمثابة طريق استراتيجي لتجارة النفط بين الشرق الأوسط والدول الأوروبية، ويسمح بالاتصال المباشر بين الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس.
ويشرف مضيق "باب المندب" على أهم الطرق الدولية التي تربط شرق العالم مع غربه حيث يمر عبره أكثر من 30% من التجارة العالمية للغاز للنفط والطبيعي، فضلاً عن مرور أكثر من 10% من إجمالي التجارة العالمية عبر هذا المضيق الذي تُشرف عليه نظرياً السلطات اليمنية.
وكانت سلطة الحوثيين في صنعاء قد أعلنت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي 2023 استهداف جميع أنواع السفن الإسرائيلية والتي تعمل لصالح كيان الاحتلال، داعية جميع دول العالم إلى سحب مواطنيها العاملين عليها وتجنب التعامل معها، وكذلك استهداف جميع السفن التي تحمل علم إسرائيل، والسفن التي تقوم بتشغيلها شركات أو تعود ملكيتها لشركات إسرائيلية.
وجاء ذلك قبل أن تعود وتؤكد في ديسمبر/ كانون الأول على استمرارها في استهداف السفن الإسرائيلية وسفن الدول المتعاونة معها حتى يتم السماح بدخول الغذاء والدواء إلى قطاع غزة.
وقالت الأمم المتحدة الاثنين 5 فبراير/ شباط 2024 إن استمرار جماعة الحوثيين في تنفيذ الهجمات على طرق الملاحة في البحر الأحمر وخليج عدن يهدد بتفاقم الصراع ويضاعف من حدة التأثيرات على التجارة الدولية.
وأكدت وكيلة الأمين العام للشؤون السياسية وبناء السلام؛ روزماري دي كارلو، في إحاطة أمام مجلس الأمن الدولي، أن هجمات الحوثيين المستمرة بالطائرات المسيرة والصواريخ والتهديدات للملاحة في البحر الأحمر "تثير قلقاً عميقاً وتهدد بتفاقم الصراع والتأثير بشكل أكبر على التجارة الدولية"، إذ تقوم الشركات بتحويل السفن بعيداً عن الطرق البحرية الحيوية.
في السياق، يؤكد خبراء اقتصاد أهمية "باب المندب" في الأحداث المتصاعدة بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي يحتل المرتبة الثالثة عالمياً بعد مضيقي ملقا وهرمز، حيث يمر عبره يومياً 3.3 ملايين برميل نفط، وتمثل 4% من الطلب العالمي على الخام.
وسبق أن استخدم في حرب 1973 كورقة ضغط على دولة الكيان الإسرائيلي. وانتقد خبراء اقتصاد وسياسيون الازدواجية في التعامل مع ما يجري، إذ فشل مجلس الأمن أكثر من مرة في اعتماد قرار يلزم إسرائيل بوقف الحرب ومجازرها في قطاع غزة.
بؤرة رئيسية للصراع
الباحث الاقتصادي عصام مقبل يشدد في هذا الخصوص، لـ"العربي الجديد"، على أن منطقة باب المندب والمنطقة الساحلية الغربية من اليمن بؤرة رئيسية للصراع الدولي من أجل التحكم والسيطرة على أهم ممرات التجارة الدولية التي تعبرها عشرات السفن المحملة بسلع تقدر بمليارات الدولارات أمام سكان يشكون الفقر والفاقة، إذ لم يستفد اليمن من هذا الموقع حتى على مستوى البنية التحتية والخدمات لمثل هذه المناطق في الساحل الغربي للبلاد.
ويشير الباحث الاقتصادي اليمني إلى أن الأطماع الدولية، آخرها ما يسمى بتحالف "الازدهار" الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تحت ذريعة حماية سفن التجارة الدولية في البحر الأحمر من استهداف الحوثيين، يأتي وسط إهمال باب المندب ومختلف مناطق الساحل الغربي من اليمن وغياب المشاريع الخدمية، في حين يطغى الوجود العسكري الغربي بشكل لافت على امتداد سواحل ومناطق البحر الأحمر على دول أخرى مثل إريتريا وجيبوتي.
ودخلت هذه الأحداث المتصاعدة في البحر الأحمر منعطفاً خطيراً مع قيام الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا بشن ضربات عسكرية متواصلة تستهدف صنعاء وعدة محافظات يمنية بعد صدور قرار من مجلس الأمن يدين الهجمات التي تشنها جماعة الحوثي في البحر الأحمر وتهديدها للملاحة والشحن التجاري الدولي.
ويعتبر كثيرون أن هذه التطورات الأخيرة، أي استهداف سفن أميركية وبريطانية، والهجمات الأخيرة على اليمن، نقطة أخرى فاصلة في الصراع المتصاعد في المنطقة نتيجة العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة حيث سيكون هناك تبعات واسعة تطاول الأسواق والتجارة الدولية.
ويأتي ذلك، إضافة إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية في اليمن الذي سيعاني من تأثيرات واسعة على مستوى التجارة الخارجية والواردات إلى البلد الفقير الذي لا يزال يعاني من تبعات الصراع المحلي، إذ كانت هذه الأزمة المحلية في طريقها للحلحلة، خصوصاً على مستوى الملف الاقتصادي والشحن التجاري وأزمة النقل وطرقات ورواتب الموظفين المدنيين، إلا أن الحرب التي اندلعت في غزة والبحر الأحمر خطفت الأضواء وجعلت الاهتمام بملف المصالحة اليمنية يتراجع نسبياً.
وأكدت الحكومة اليمنية ارتفاع نسبة الفقر في البلاد إلى 80%، وانكماش الاقتصاد بنسبة 50%، في ظل الصراع الذي يشهده اليمن منذ 9 سنوات.
وحسب وزير التخطيط والتعاون الدولي واعد باذيب، في تصريحات سابقة، نزح حوالي 4.3 ملايين يمني يفتقرون إلى الخدمات الأساسية، ويحتاج 80% من السكان إلى مساعدات إنسانية، كذلك يواجه البلد ارتفاع المديونية الخارجية وانكماش الاقتصاد، وتراجع الإيرادات العامة.