يرى الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما، في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، أنّ أميركا التي خرجت من الحرب الباردة كأكبر اقتصاد وقوة عسكرية في العالم سترسي الهيمنة المطلقة لمعايير الديمقراطية والرأسمالية وتفرضها على "النظام العالمي" إلى الأبد بعد الانتصار الكبيرعلى الإمبراطورية السوفييتية وتحطيم النظام الشيوعي.
لكن ما حدث بعد ذلك كان مفاجأة ربما لفوكوياما نفسه، إذ إن واشنطن واجهت منافسة شرسة جديدة تفوق كثيراً منافسة موسكو، حيث صعدت الصين وبقوة تجارياً واقتصادياً وحتى تقنياً في مسرح النفوذ العالمي وباتت تهدد هيمنة واشنطن على التجارة والتقنية ومنظماتها الدولية، كما أنشأت بنوكاً تجارية متعددة الأطراف شبيهة بصندوق النقد والبنك الدوليين، ودخلت في تحالفات مع القوى الاقتصادية الصاعدة مثل تجمع "بريكس". كما سعت الصين للسيطرة على منظمات التجارة والتقنية الأممية لتمرير معايير بديلة للمعايير الغربية.
أمام هذا المشهد الجيوسياسي والواقع الاقتصادي والتجاري الجديد يصعد الرئيس الأميركي جو بايدن للسلطة في واشنطن ويطرح استراتيجية "عودة أميركا للمسرح العالمي" لاستعادة نفوذ بلاده الدولي وكسب الدول النامية والفقيرة وحتى دول أوروبا ومنطقة "يورو آسيا" مرة أخرى. ولكن هل يتمكن من تحقيق ذلك وماهي الأدوات التي سيستخدمها لتقويض النفوذ الصيني؟
وفق مراقبين، يعمل بايدن على مواجهة الصين على عدة جبهات أبرزها، جبهة التجارة والاستثمار الصينية، وجبهة كسب المنظمات الأممية. وفي المقابل، تعمل استراتيجية "الحزام والطريق" التي أسسها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عام 2013 لتقوية النفوذ السياسي والاقتصادي وخدمة المصالح الجيوسياسية لبلاده، وكذلك ملء فضاء النفوذ الفارغ الذي تعاني منه العديد من الدول، وبالتالي تبحث عن مركز نفوذ بديل لواشنطن.
وبينما ترى الخبيرة بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي، إليزابيث إكونومي، أنّ "الصين عززت من مركزها العالمي 10 أضعاف في عهد الرئيس شي" يرى آخرون أنّ مبادرة "الحزام والطريق" ربما تكون قبراً للطموحات الصينية، لأنّها أغرقت عدة دول في الديون الصينية وخطفت أسواقها المحلية وحطمت صناعاتها، وبالتالي هيمنت على ثرواتها، وربما تنتهي إلى إشعال ثورة في العديد من البلدان ضد بكين.
في هذا الصدد، قال تحليل بصحيفة "صنداى مورنينغ هيرالد" الأسترالية، يوم الثلاثاء، إنّ الغضب العالمي ضد الشركات الصينية بدول صادراتها الرئيسية ارتفع خلال السنوات الثلاث الماضية من 32% إلى 81%.
وبينما ظنت بعض الشعوب النامية، أنّ اللجوء للصين سيحررها من نفوذ واشنطن، وقعت العديد منها في "شراك الديون" الصينية التي تبدأ عادة بفائدة ميسرة، لكنّها تحتوي على شروط قاسية لتصبح رهينة لرغبات بكين التي منحتها المال للصرف ببذخ على مشروعات مبان عالية ومطارات حديثة غير منتجة، كما خسرت هذه الدول كذلك أسواقها وثرواتها للشركات الصينية والوظائف المحلية، إذ تتبع الشركات الصينية استراتيجية توفير العمالة من الصين للمشاريع التي تنفذها كواحدة من شروط منح التمويل. ويرى محللون، أنّ بكين استخدمت أموالها كذلك لشراء النفوذ السياسي في الدول النامية للسيطرة على مشاريع النفط والغاز ومناجم المعادن، وبالتالي ربما تتحول مشاريع "الحزام والطريق" إلى نقمة وتساهم في إفقار العديد من الدول الأفريقية ودول أميركا اللاتينية في المستقبل.
لكن، كيف ستقاوم واشنطن مبادرة "الحزام والطريق"؟
طرحت إدارة بايدن مبادرة تمويل مشاريع البنية التحتية بالدول النامية ودول الاقتصادات الناشئة بمشاركة مع حلفائها في أوروبا وآسيا، خصوصاً اليابان وأستراليا. لكنّ خبراء يرون أنّ التمويل الأميركي في خطة تحديث البنى التحتية ربما لن يكون كافياً لمعادلة التمويل الصيني الذي وفرته بكين لدول "الحزام والطريق" والذي تقدره منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي بنحو تريليون دولار حتى الآن.
خبراء يرون أنّ التمويل الأميركي في خطة تحديث البنى التحتية ربما لن يكون كافياً لمعادلة التمويل الصيني الذي وفرته بكين لدول "الحزام والطريق" والذي تقدره منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي بنحو تريليون دولار
وتنوي واشنطن حثّ القطاع الخاص على الاستثمار بالدول النامية عبر استخدام تمويل الشركات والمصارف وصناديق المعاشات التي لديها تريليونات الدولارات، وذلك حسب دراسة أعدها اقتصاديون لإدارة بايدن في مارس/ آذار الماضي تتناول كيفية مقاومة التمدد التجاري الصيني.
على صعيد المنظمات الدولية، وحسب تقرير في مجلة "فورين ريبورت" الأميركية يوم الثلاثاء، كسبت الصين في السنوات الأخيرة العديد من المنظمات الدولية، كما سيطرت على رئاسات ومقاعد في منظمات التجارة والتقنية والنقل والطيران العالمي. وعلى الرغم من أنّ بعض مراكز النفوذ اليمينية في واشنطن ترى أنّ هذه المنظمات غير مهمة للنفوذ الأميركي، يرى الخبير ريتشارد غولدبيرغ في تحليل بمجلة "فورين ريبورت"، أنّ هذه المنظمات تمثل على أرض الواقع منصات عالمية مهمة لبسط المعايير الصينية وعرقلة المعايير الغربية التي تحكم العالم.
وكسبت بكين خلال السنوات الأخيرة، رئاسة اتحاد الاتصالات العالمي "آي تي أو"، كما كسبت رئاسة منظمة الطيران المدني العالمية، وأصبحت عضواً في منظمة التجارة العالمية. وربما تستخدم بكين موقع نفوذها في هذه المنظمات وعبر أصوات حلفاء التجارة لتثبيت معاييرها والتخلص تدريجياً من المعايير الغربية.
ويرى الخبير غولدبيرغ، أنّ بكين ستستخدم هذه المنصات لمقاومة حظر تقنية الجيل الخامس لشركة "هواوي" التي تحظرها أميركا وتحاصرها عالمياً بحجة أنّها تهدد أمن المعلومات. كما ربما تستغل منصة منظمة التجارة العالمية لتغيير قوانين الملكية الفكرية الخاصة بالبراءة والاختراع حتى لا تعاقب على خروقات تقنيات الشركات الغربية التي ترى واشنطن أنّ الصين تسرقها وتستخدمها في تطوير صناعاتها الدفاعية والأمنية.