أكد تقرير نشره صندوق النقد الدولي اليوم الخميس وجود عاصفة ديون تتشكل في بعض أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد تصاعد عمليات الاستدانة، ووصولها لمستويات "مرتفعة للغاية"، في بعض بلدان المنطقة.
وبحسب مقال منشور على موقع المؤسسة المالية الدولية فإن مصر والأردن وتونس تواجه حالياً "وضعاً محفوفاً بالمخاطر، حيث يتأرجح استقرارها الاقتصادي، بينما تعاني في مواجهة أزمة ديون محتملة".
أما لبنان، الذي يعاني بالفعل من واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية في التاريخ، فيقول المقال إنه أصبح "قصة ذات عبرة، بعد أن سلط تعثره في سداد ديونه أضواء قوية على التحديات الجسيمة المرتبطة بالديون في هذه البلدان وتداعياتها الأوسع نطاقاً".
وأوضح المقال، الذي كتبه عدنان مزراعي، وهو زميل أول غير مقيم في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، الذي يعد أحد أهم مراكز الأبحاث بواشنطن العاصمة، أن تصاعد مد الديون، إلى جانب آفاق الاقتصاد العالمي الصعبة، يثير عاصفة مكتملة الأركان، مشيراً إلى أن هذه الأزمة تفاقمت بسبب ندرة التمويل بفائدة منخفضة، وإحجام البلدان الثرية المنتجة للنفط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن مواصلة الدعم المالي غير المشروط الذي كانت تقدمه في الماضي.
وتؤدي الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي تواجهها هذه البلدان إلى تفاقم هذه المعادلة المعقدة، مما لا يترك مجالا كافيا لعمليات ضبط مالي كبيرة. وبالتالي، فإن الحفاظ على استدامة القدرة على تحمل الدين يمثل تحدياً هائلاً لهذه البلدان، وتزداد صعوبته أكثر من أي وقت مضى.
وأكد كاتب المقال أن خطر الوضع الراهن لا يقتصر على آفاق النمو الاقتصادي، لكنه يهدد أيضاً الاستقرار الاجتماعي- السياسي في هذه البلدان. ورغم أن المخاطر كبيرة، فوسط هذه الحقائق المريرة يكمن طريق ضيق للخلاص، لكن هذا الطريق يتطلب تدابير جريئة واستباقية لمعالجة أزمة الديون مباشرة، كما كتب مزراعي.
وأضاف مزراعي موضحاً أن بلدان الشرق الأوسط التي تعاني هذه الأزمة أصبحت مكبلة بمشكلات هيكلية مستمرة، تتعلق بأطر الحوكمة والأطر التنظيمية، والاقتصادات الخاضعة لسيطرة الدولة، والقطاع العام المتضخم الذي يعوق نمو القطاع الخاص، وتعبئة الإيرادات المحلية المنخفضة، والدعم غير الموجه بدقة للمستحقين.
وأكد أن هذه المشكلات طويلة الأمد، وأنها ترجع في الأساس إلى عدم كفاية الإصلاحات. وأشار إلى أن اعتماد هذه البلدان على أسعار الصرف الثابتة وتمويل الديون يساهم أيضاً في حدوث الأزمة.
وقال: "تفاقمت المشكلة بسبب التحديات الاجتماعية وانعدام الثقة في الحكومة التي تعوق التوزيع العادل لأعباء التعديلات الاقتصادية. ونتيجة لذلك، فقد تم استغلال الدَين العام كحل مؤقت لسد الفجوة لتأجيل التعامل مع المشكلات الاقتصادية، ولكن دون إيجاد حلول دائمة".
ويأتي نشر المقال الهام على موقع المؤسسة الدولية، بعد أيام قليلة من نشر جريدة "وول ستريت جورنال" الشهيرة تقريراً مفصلاً، عنونته "دول الشرق الأوسط ماكينة الصراف الآلي للعالم"، وتحدث كاتبه فيه عن الطفرة التي حدثت في أسعار الطاقة على مدار العامين الأخيرين، وما تسببت فيه من مراكمة الثروات لدى صناديق السيادية في المنطقة، وتحديداً في السعودية والإمارات وقطر.
وأوضح التقرير، الذاخر بالتفاصيل، أن الأنظمة الملكية في المنطقة التي تسعى لتعزيز نفوذها الدولي، تعيش حالياً لحظة فارقة في المشهد المالي العالمي، تنعم فيها بالسيولة النقدية الضخمة الناتجة من ارتفاع أسعار الطاقة، ما جعل منها مصدراً رئيساً للاستثمار في الأسهم الخاصة ورأس مال المخاطر والصناديق العقارية، في اوروبا وأميركا، ومناطق أخرى حول العالم.
وذيل صندوق النقد الدولي المقال بعبارة، حاول فيها النأي بنفسه عما جاء فيه، حيث أكد أن نشر المقالات على موقعه لا يعني موافقته على ما جاء فيها.
مصر
أشار المقال إلى أن مصر عانت على مدار سنوات من الركود الاقتصادي، الذي يُعزى جزئياً إلى سيطرة الجيش الواسعة على الاقتصاد. وقد تفاقمت مشكلات مصر بسبب الخسائر التي منيت بها السياحة من جراء الجائحة، إلى جانب الارتفاع الحاد في تكاليف استيراد الغذاء في أعقاب الحرب الروسية في أوكرانيا. ونتج عن العجز الدائم في الموازنة والحفاظ على سعر الصرف الثابت احتياجات تمويلية كبيرة، تمت تلبية جزء منها من خلال التدفقات الرأسمالية الداخلة قصيرة الأجل (الأموال الساخنة).
كما ورد في عدد إبريل 2023 من تقرير الراصد المالي، الصادر عن صندوق النقد الدولي، يسجل إجمالي احتياجات مصر التمويلية في عام 2023 نسبة مذهلة تبلغ 35% من إجمالي الناتج المحلي، مما يجعلها شديدة التأثر بارتفاع أسعار الفائدة ومخاطر تجديد الدين.
الأردن
أوضح المقال أن الأردن عانى أيضاً في مواجهة النمو المنخفض، الناتج جزئياً عن سعر الصرف الثابت المقوم بأعلى من قيمته، إلى جانب الاضطرابات الجغرافية-السياسية والاقتصادية. وأدى تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين والاضطرابات التجارية عقب الحرب الأهلية السورية إلى زيادة الضغوط على اقتصاده.
في الوقت نفسه، يكافح الأردن للسيطرة على موارده العامة، مثقلاً بالدعم الضخم، وتحويلات المؤسسات العامة، والنفقات الأمنية، وهو ما يرجع في الأساس إلى العوامل الجغرافية-السياسية، وكل ذلك مع اعتماده بشكل كبير على المساعدات الرسمية.
ولحسن الحظ، يتمتع الأردن بإطار أكثر فعالية لصنع السياسات مقارنة بالبلدان الثلاثة الأخرى، ويعد أداؤه جيداً في ظل برنامجه الحالي مع صندوق النقد الدولي. غير أن ديونه المرتفعة تجعله شديد التعرض لمخاطر التطورات السلبية.
لبنان
أكد مزراعي أن أزمة الديون في لبنان مدفوعة بنظام غير مستدام، قائم على أسعار الصرف الثابتة والموارد العامة الضعيفة، وهو الأمر الذي تطلب رفع أسعار الفائدة لجذب التدفقات الأجنبية الداخلة، فيما يُطلق عليه نظام بونزي الكلاسيكي.
وقد أدى هذا النظام المعيب، إلى جانب المأزق السياسي المستمر والتأثير غير المبرر للقطاع المصرفي على صنع السياسات، إلى التعجيل بحدوث أزمة اقتصادية واجتماعية متعددة الجوانب، مما أدى إلى التعثر في سداد الديون السيادية المحلية والخارجية.
تونس
وفي مقال مزراعي، تبرز تونس باعتبارها بلد الربيع العربي الوحيد الذي بدا أنه يتخذ خطوات نحو تعزيز الديمقراطية والحوكمة. بيد أن دورها المتزايد في توفير فرص العمل وتقديم الدعم، إلى جانب صدمة كوفيد-19، التي عصفت بالاقتصاد والموازنة، زعزع استقرارها. وقد أصرت السلطات على الحفاظ على استقرار سعر الصرف حتى عندما كان من المتعذر تحمل تكلفة ذلك.
وأدى ذلك إلى الاعتماد على التدفقات الأجنبية الداخلة، ولا سيما من الدائنين الرسميين الذين دعموا التحول الديمقراطي في تونس. غير أن الاضطرابات السياسية الأخيرة التي أضعفت أثر التقدم الديمقراطي في تونس، إلى جانب رفض تنفيذ الإصلاحات الضرورية، أدت إلى تآكل قدرات تونس على سداد الديون، مما دفع البلاد نحو حالة المديونية الحرجة على نحو يتعذر اجتنابه.
وأوضح المقال أن الإطار المشترك لمجموعة العشرين لا يطبق إلا على البلدان منخفضة الدخل، وبالتالي لا يطبق على معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ذات الدخل المتوسط، ويستثنى من ذلك السودان واليمن. ويعني هذا أن معالجة مشكلات الديون المتزايدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أصبحت مهمة شاقة للغاية.
وختم مزراعي مقاله مؤكداً ضرورة اتخاذ كل بلد من البلدان عالية المديونية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خطوات عاجلة لتجنب حالة المديونية الحرجة والأزمات المحتملة، مشيراً إلى أن التدابير المطلوبة ستختلف من بلد إلى آخر، رغم أنها كلها تتعلق بمعالجة قضايا الحوكمة الرئيسية بشكل عام، كما سلوك طريق الإصلاح.
وعلى سبيل المثال، طالب مزراعي مصر بتفكيك جهازها التنظيمي المهيمن وتقليص دور الجيش في الاقتصاد لتحفيز النمو، والقيام بعمليات خصخصة قوية لجذب الاستثمار الأجنبي.
ونصح الأردن بتنفيذ إصلاحات هيكلية أعمق لتجنب حدوث أزمة. وأكد على تونس أهمية الإسراع بتحويل مسار تراجع الديمقراطية في الآونة الأخيرة والشروع في تنفيذ إصلاحات ضرورية. وحث لبنان على القيام بتشكيل عاجل لحكومة تتجاوز الانقسامات الطائفية المتجذرة، وتوجِّه البلاد نحو الإصلاح.