رمى لبنان، هو الآخر، بورقة اللاجئين السوريين مستبقاً أسبوع الاجتماعات واللقاءات الدولية، إن بلندن أو بروكسل أو حتى ببرن السويسرية، علّه يزيد حصة المساعدات ويصرف بعض الانتباه عن الأزمات الاقتصادية الخانقة، أو يحمّلها، كما جرت العادة، لوجود مليون ونصف مليون سوري على أراضيه.
فطلب الرئيس اللبناني ميشال عون، بالأمس، من الأمين العام للاتحاد الدَوليّ للصليب الأحمر والهلال الأحمر جاغان شاباغين دعم لبنان في مطالبته بإعادة النازحين إلى بلادهم في إطار العودة الآمنة، لأنه وعلى حد قول عون، فإن "نزوح أعداد كبيرة من السوريين زاد في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ما يجعل من المستحيل الاستمرار في هذا الواقع".
ولم يعد الرئيس اللبناني مطلبه الأساس من "نغمة اللاجئين السوريين"، وهو ما كرره مراراً بالسابق، "من حق بيروت في الحصول على تعويض من الدول التي أشعلت الحرب في سورية"، تاركاً تقدير الأمر للقمم الأوروبية الأميركية والأميركية الروسية التي على الأرجح، ستعيد النظر بكامل الملف السوري.
من الإجحاف ونكران الجميل التنكر لما قدمه لبنان للسوريين خلال تهجيرهم وملاحقتهم من نظام الأسد، بل الشكر كله للشقيق الجار على فتح حدوده وذراعيه، وهو الدولة الصغيرة بمساحتها وسكانها وحتى بمواردها، لتستقبل زهاء مليون ونصف مليون لاجئ سوري منذ 2011.
بل ولم يزل يحاول، كدولة، منع التنكيل بالسوريين وإبعاد شرر المتسلطين وبعض العنصريين الذين يحمّلون اللاجئ السوري وزر انهيار الاقتصاد وغلاء الأسعار وتكاليف المعيشة، فيقتصّون منهم بحرق مخيم حيناً، ويمارسون أبشع أنواع العنصرية والجريمة في غالبية الأحايين.
بيد أن معزوفة أن السوريين هم سبب البلاء واستنزاف الموارد وانهيار الاقتصاد والعملة في لبنان، لم تعد تطرب أو يصدّقها حتى اللبنانيون الذين اختبروا مسؤوليهم وخطط حكوماتهم.
كما أن التشكيك، بعد الوقائع والأرقام الجديدة، بات يلف الطرح الرسمي من أن لبنان يتكبد، جراء استقبال اللاجئين السوريين، مليار دولار كلفة سنوية مباشرة، و3 مليارات تكاليف غير مباشرة، مذ أعلنه أول مرة حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة في العام 2014، خلال الاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس المصرف المركزي، وتناقله بعد ذلك، بل زاد عليه، كثيرون، ربما أكثرهم اتهامية وفجاجة بالطرح وتحميل السوريين وزر تهاوي اقتصاد لبنان كان وزير الخارجية السابق جبران باسيل.
ثم أتى بالأمس كلام المدير التنفيذي لـ"برنامج الغذاء العالمي" ديفيد بيزلي أمام البرلمان البريطاني، قالباً كل تلك التصريحات، وواضعا مطلقيها في موقف حرج، بتأكيده أن اللاجئين يولدون دخلا وربما يساهمون، عبر الإنفاق، في بقاء الاقتصاد على حافة الانهيار، من دون أن ينهار تماما حتى اليوم.
المسؤول الأممي قال بالحرف إن "الاقتصاد اللبناني كان سينهار لولا المساعدات المالية المقدمة للنازحين السوريين"، مبيناً أن ثلث أموال المساعدات ينفقها السوريون لشراء المنتجات الزراعية اللبنانية، وثلث آخر ينفقونها لشراء منتجات عالمية في أسواق لبنان.
وأضاف أن النازحين السوريين يدفعون سنويا 400 مليون دولار إيجار منازل يسكنونها، ويساهمون يوميا بمليون ونصف مليون دولار في اقتصاد لبنان، ووجودهم أمّن 12 ألف وظيفة عمل للبنانيين، وهو رقم يفوق ما أمنته حكومة لبنان لمواطنيها، مستغرباً غضب بعض مسؤولي لبنان من وجود السوريين، خصوصاً كلام رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب عن أن الاقتصاد أصبح على حافة الانهيار بسبب السوريين.
ليس من الوفاء بمكان تبني كلام المسؤول الأممي والانتقال إلى ضفة تمنين الأشقاء اللبنانيين، بأن وجود اللاجئين السوريين فيه منفعة وخير لهم ولاقتصادهم، كما لا يمكن تبني خطاب رئيس النظام السوري بشار الأسد، واعتبار الإيداعات السورية في لبنان سبب صموده، أو حتى السير في جوقة أن العمال السوريين هم من أعادوا إعمار لبنان وشغلوا القطاعات التي لا يرتضي اللبنانيون العمل فيها.
كما لا يمكن حتى الإشارة إلى الأعمال والاستثمارات التي استحدثها السوريون في لبنان بعد العام 2011، أو إلى من جنّسهم لبنان من رجال أعمال سوريين، أو دور "حزب الله" اللبناني في خراب سورية والمساهمة باحتلالها فارسياً وتحويلها إلى مركز تصريف مخدراته وإرهابه.
لكن في المقابل، ليس من الواقعية بشيء أن يحمّل مسؤولو لبنان لللاجئين السوريين أوزار أفعال حكوماتهم واختلاسات مسؤوليهم واختلافاتهم السياسية والتحاصصية، كما ليس من المنطق تناسي عقابيل (شدائد) عامَي كورونا على اقتصاد يختنق إن توقفت سياحته، أو يتعرّى وينكشف حاله إن توقفت المساعدات أو تراجعت تحويلات مغتربيه.
كما يتم الصمت عن تشفٍ وانتقامية من بعض اللبنانيين، بل وإساءات وترك اللاجئين السوريين يعانون، كما في مخيّمات عرسال مثالاً، أو حرق خيم واضطهاد وعنصرية من آخرين، واعتبار كل ذلك تصرفات فردية.
نهاية القول: على لبنان، مسؤولين وحتى شعباً، النظر بعين الإنصاف إلى السوريين الذين ضاقت بهم الدنيا، وعدم تحميلهم أعباء إضافية وذنوبا جديدة لم يقترفوها.