يعيش اليمن على وقع صدمة معيشية إضافية إلى جانب الصراع الدائر في البلاد والأزمات الاقتصادية والإنسانية المتتابعة، مع عودة آلاف العمال المغتربين من السعودية بسبب ما تنفذه المملكة من إجراءات بحقهم، يرى كثيرون أنها غير مفهومة، وتفاقم من الوضع المأساوي الذي يشهده اليمن.
وتشن السلطات السعودية حملات مكثفة على العمال تتركز منذ منتصف الشهر الماضي في جيزان ونجران، وتتوسع تدريجيا لتشمل مناطق سعودية اّخرى. وتستهدف هذه الحملات الاستغناء عن آلاف العمال من عدة جنسيات ومنها اليمنية واستبدالها بعمالة من جنسيات آسيوية، خصوصاً في الجامعات وبعض المؤسسات التعليمية والطبية والمهن الأخرى.
وأكدت مصادر مطلعة في الحكومة اليمنية، رفضت ذكر اسمها، لـ"العربي الجديد" أن هناك تحركات تقوم بها الرئاسة والحكومة اليمنيتان للتحدث مع المسؤولين السعوديين من أجل تخفيف الإجراءات المتخذة في سوق العمل السعودي والتي لا تشمل فقط العمالة اليمنية بل العمالة من مختلف الجنسيات.
مفاوضات بين مسؤولي البلدين
تسعى تحركات المسؤولين إلى منح العمالة اليمنية استثناءات بالنظر إلى وضع البلاد الراهن، في ظل ما تشهده من أزمات اقتصادية وإنسانية وتهاوٍ متواصل في العملة الوطنية، حسب المصادر.
وبتوجيهات من الرئيس عبد ربه منصور هادي، التقى وزير الخارجية والمغتربين اليمني أحمد عوض بن مبارك، مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان، لمناقشة قضايا المغتربين اليمنيين داخل الأراضي السعودية، وضرورة العمل على حل مشاكلهم وتذليل الصعاب التي يواجهونها لما يشكلونه من أهمية كرافد اقتصادي حيوي لليمن ومساهمتهم في إعالة أسرهم داخل البلاد في ظل الظروف الراهنة التي سببها الانقلاب الحوثي كما جاء في تغريدة على "تويتر" لوزير الخارجية اليمني عقب لقائه مع نظيره السعودي.
تحركات تقوم بها الرئاسة والحكومة اليمنيتان للتحدث مع المسؤولين السعوديين من أجل تخفيف الإجراءات المتخذة في سوق العمل السعودي
وتشير مصادر مطلعة تحدثت لـ"العربي الجديد" إلى قيام السلطات السعودية خلال الشهر الماضي بتحديد نسبة العمالة اليمنية في كل المنشآت وقطاعات الأعمال بنحو 25%، ومن ثم البدء بحملات ميدانية لتنفيذ القرار الذي يأتي في سياق سلسلة من القرارات والإجراءات التي تنفذها تلك السلطات للعام الثالث على التوالي.
تسريح من دون سابق إنذار
كان وقع الإجراءات السعودية قاسياً على العمالة اليمنية التي تعمل منذ سنوات في العديد من القطاعات، إذ يعد ذلك المصدر الوحيد للحصول على دخل يعينهم وأسرهم على الحياة الصعبة والقاسية، في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية في اليمن.
وفي هذا السياق، تحدث العامل اليمني العائد حديثا من السعودية إبراهيم محمد لـ"العربي الجديد"، أنه عاد إلى اليمن مطلع الشهر الحالي بعد غربة للعمل في منطقة حائل السعودية استمرت لمدة عشرين عاماً بعد رفض السلطات هناك تجديد إقامته إذ منحته تأشيرة خروج نهائي لأسباب تتعلق بالتراكمات المالية الباهظة التي عجز عن تسديدها من جبايات ورسوم تجديد الإقامة نتيجة قيام السلطات بالمملكة بمضاعفتها بنسبة كبيرة خلال العامين الماضيين.
ومن جانبه، أبلغ العامل رائد العماري "العربي الجديد" أنّه وقع بين يدي السلطات العاملة في مجال الجوازات بالمملكة التي قامت بتسريحه بحجة أن العمالة الأجنبية المحددة في المجال الذي يعمل به كمهندس كهربائي تعدت النسبة المحدّدة قانوناً، إذ يتم وفق قوله تنفيذ هذه الإجراءات بصرامة شديدة ومن دون إعطاء أيّ مهلة أو التماس أيّ مبررات لمعالجة الإقامة حسب معايير قوانين العمل في السعودية.
وأكد مغتربون يمنيون يعملون في المناطق الجنوبية للمملكة في جيزان ونجران وعسير، منهم أطباء وأكاديميون، تلقيهم إشعارات من السلطات السعودية بإنهاء التعاقد معهم دون سابق إنذار، وإعطاء مهلة لملاك الأعمال السعوديين محددة بنحو 4 أشهر لتنفيذ النسب المحددة من قبل وزارة العمل السعودية للعمالة الأجنبية في المملكة.
مغتربون يمنيون يعملون في المناطق الجنوبية للمملكة في جيزان ونجران وعسير، يؤكدون تلقيهم إشعارات من السلطات السعودية بإنهاء التعاقد معهم دون سابق إنذار
في السياق، يقول الباحث الاقتصادي، جمال العديني، لـ"العربي الجديد"، إن الحملات السعودية غير منطقية في استهداف فئة عمالية محددة بالتزامن مع عملية التسريح بدون إبداء أي أسباب متعلقة بالتوطين أو سعودة المهن، أو القيام بتعويضهم عما سيلحقهم من أضرار وخسائر وفق قوانين العمل المتبعة.
ضغوط معيشية ومالية
ارتفعت وتيرة عودة العمال اليمنيين المغتربين في السعودية إلى اليمن، خلال الفترة الأخيرة، إذ استقبلت محافظات مثل حضرموت جنوب شرقي اليمن وتعز جنوب غربي البلاد عددا كبيرا من العائدين منذ الشهر الماضي، في ظل تحذيرات خبراء اقتصاد من تداعيات الخطة السعودية في ظل ظروف الحرب التي يعاني منها اليمن وندرة فرص العمل والانهيار الحاصل في قيمة الريال اليمني، فضلا عما قد تشكله عودة المغتربين ومرافقيهم بهذه الكثافة إلى اليمن من زيادة ضغوط الطلب على الخدمات الاجتماعية الأساسية في قطاعات التعليم والصحة والمياه التي تواجه أصلا شبح الانهيار في معظم مناطق البلاد.
من المرجح أن يعاني اليمن من انخفاض حصيلة التحويلات، مع إجراءات تقليص فرص العمل أمام العمال اليمنيين في السعودية ودول خليجية آخرى
ومن المرجح أن يعاني اليمن من انخفاض حصيلة التحويلات، مع إجراءات تقليص فرص العمل أمام العمال اليمنيين في السعودية ودول خليجية آخرى، مما يؤثر على الأسر التي تعتمد على هذه التحويلات، ناهيك عن تفاقم الأزمة المالية، ما سيؤدي إلى إضعاف المركز الخارجي لليمن، مما يزيد من الضغوط على سعر الصرف مع التأثير على أسعار السلع المستوردة.
وفي هذا الإطار، يرى الخبير الاقتصادي ونائب وزير التخطيط والتعاون الدولي السابق في اليمن، مطهر العباسي، في حديثه لـ"العربي الجديد" أن الاقتصاد اليمني سيتأثر كثيرا باهتزاز ما تبقى من موارده الشحيحة مع فقدان بقية موارده الرئيسية التي يعتمد عليها، إذ ظلت تحويلات المغتربين خلال سنوات الحرب في اليمن منذ نحو ست سنوات تمثل المصدر المستدام للعملة الأجنبية سواء في شكل تحويلات بالريال السعودي أو الدولار أو أي عملة أخرى.
ويربط العباسي هذا المورد الذي حاول الصمود خلال الفترة الماضية، بمعركة الحفاظ على القوة الشرائية للريال اليمني، مع امتداد تأثيره إلى كل المناطق والمحافظات اليمنية بغض النظر عن الإجراءات التي يقوم بها البنك المركزي اليمني، إذ تعتبر تحويلات المغتربين مورداً غير مرئي من الناحية الاقتصادية، لكنه رئيسي في تدفق العملة الصعبة والاحتياطي النقدي والميزان التجاري واستقرار الأسواق والتخفيف من المعاناة الإنسانية.
وفي ظل تواصل تدهور العملة المحلية، وجه الرئيس اليمني، عبد ربه منصور هادي، الإثنين الماضي، البنك المركزي الخاضع للحكومة (المعترف بها دولياً) في العاصمة المؤقتة عدن، بضرورة إدارة التحكم بالمعروض النقدي المحلي والأجنبي وضبط وإدارة السوق، وعدم ترك أدوات السياسة النقدية وأدوات السوق في أيدي الصرافين والمضاربين وجماعة الحوثيين.
وجاءت توجيهات الرئيس اليمني التي أطلقها خلال اجتماع مع قيادة البنك المركزي بحضور رئيس الحكومة معين عبد الملك، غداة معاودة الريال حالة الانهيار وتسجيل 1010 ريالات أمام الدولار الواحد بعد أيام من التحسن الملحوظ خلال الأسبوع الماضي.
الحد من انهيار القدرة الشرائية
يقدر البنك الدولي حجم تحويلات المغتربين اليمنيين بحوالي 4 مليارات دولار سنويا، بينما يقدرها تقرير صادر مؤخراً عن قطاع الدراسات والتوقعات الاقتصادية في وزارة التخطيط اليمنية، بنحو 431 مليون دولار شهرياً خلال عام 2019، مؤكدا بحسب ما استند إليه من بيانات ومعلومات أهمية تحويلات المغتربين اليمنيين في الخارج والتي كان لها دور كبير خلال السنوات الثلاث الأولى من الحرب في الحد من تغيرات سعر الصرف والحد من انهيار القيمة الشرائية للريال اليمني.
ويأتي ذلك رغم المضايقات الواسعة التي تتعرض لها العمالة المغتربة خصوصا في السعودية التي تحتضن العدد الأكبر من المغتربين في الخارج وترتبط بحدود برية واسعة مع اليمن الذي تعيش في حالة حرب متواصلة منذ العام 2015 تسببت في أكبر أزمة إنسانية في العالم لبلد منكوب أصلاً بالبطالة والفقر المزمن، حسب تقرير قطاع الدراسات والتوقعات الاقتصادية بوزارة التخطيط اليمنية.
ومنذ عام 2015، تآكلت الاحتياطيات الخارجية من النقد الأجنبي تدريجياً في اليمن وتعثرت صادرات النفط والغاز وتخلى البنك المركزي عن تمويل استيراد السلع الأساسية والوقود على مراحل بينما حافظت تحويلات المغتربين على قيمتها، وفق تقرير وزارة التخطيط عند 3.3 مليارات دولار عام 2015، وارتفعت قليلاً إلى 3.7 مليارات دولار عام 2016، وقدرت بحوالي 3.4 مليارات دولار عام 2017، و3.6 مليارات دولار في العام 2018.
وكانت تحويلات المغتربين بمثابة الملاذ الأخير الذي تزاحم عليه المستوردون في سوق الصرف خلال سنوات الحرب، مجنبةً الوضع الاقتصادي والإنساني في البلاد السيناريوهات الأكثر خطورة التي نراها في الأشهر الماضية من تدهور للعملة الوطنية أمام العملات الأجنبية.
يقدر البنك الدولي حجم تحويلات المغتربين اليمنيين بنحو 4 مليارات دولار سنويا، بينما تقدرها وزارة التخطيط اليمنية، بنحو 431 مليون دولار شهرياً خلال عام 2019
كما تبين تقارير اقتصادية رسمية، أن نسبة تحويلات المغتربين إلى الناتج المحلي الإجمالي تمثل واحداً من أهم المؤشرات للاستدلال على مساهمة التحويلات في الاقتصاد اليمني، فالتحويلات تمكن المغترب من تغطية النفقات الاستهلاكية لأسرته وتنفيذ مشروعات اقتصادية صغيرة ومتوسطة غالباً عبر هذه التحويلات.
تنشيط الاقتصاد
لا يتوقف أثر التحويلات عند الشخص أو الأسرة المتلقية لها مباشرة، بل تمتد آثارها إلى بقية الاقتصاد والمجتمع من خلال التأثير المضاعف إذ تساهم في زيادة الطلب الكلي، وبالتالي تنشيط الاقتصاد لإنتاج المزيد من السلع والخدمات وتوليد فرص العمل والدخل ومن ثم تخفيف حدة الفقر بشكل مباشر وغير مباشر.
وإلى جانب اعتماد ما يزيد عن 35% من الأسر اليمنية على تحويلات المغتربين، تنامت نسبة مساهمة هذه التحويلات في الاقتصاد اليمني بصورة ملحوظة أثناء فترة الحرب قبل تفشي فيروس كورونا، إذ ارتفعت وفق بيانات رسمية، من 9.9% عام 2014 إلى نحو 25% عام 2018.
ويعكس ذلك أهمية التحويلات كمصدر للدخل وتحقيق الاستقرار المعيشي للسكان في اليمن، والدور الذي تلعبه في دعم وصول أسر المغتربين إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية والحد من انعدام الأمن الغذائي والتخفيف من الفقر، حسب مراقبين لـ"العربي الجديد".