استمع إلى الملخص
- يوضح الباحث أحمد أبو قمر أن نقص الشاحنات واحتكار السلع يؤديان إلى ارتفاع الأسعار، بينما سياسة الإغراق الإسرائيلية تزيد من معاناة المواطنين.
- يواجه التجار صعوبات في توفير البضائع بسبب ارتفاع الأسعار وتذبذبها، مما يفتح المجال للتلاعب والاحتكار، وتبقى البسطات الشعبية المصدر الأساسي لتلبية احتياجات الأسر.
لا يتمكن الفلسطينيون في قطاع غزة من شراء أو توفير متطلباتهم الأساسية جراء تواصل ارتفاع الأسعار إلى نسب غير مسبوقة في الوقت الذي تعاني فيه مختلف الشرائح المجتمعية من الأوضاع الاقتصادية الصعبة بفعل التداعيات الكارثية للحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
ولم يخفف الدخول الجزئي لبعض أصناف البضائع من حدة الأزمة بفعل تواصل ارتفاع الأسعار نتيجة دخول السلع الأساسية بنسب شحيحة لا تلبي حاجة السوق فيما لا تتجاوز 13% من نسبة الاحتياج الفعلي للمواطنين في ظل الحرب، في الوقت الذي تتفاقم فيه الأوضاع المعيشية والاقتصادية سوءا يوما تلو الآخر.
ويعود ارتفاع الأسعار خلال الحرب إلى مجموعة من الأسباب الاقتصادية واللوجستية، التي تؤدي إلى اختلال العرض والطلب وتعطل الأسواق، ومن أبرزها تعطل سلاسل التوريد، وتدمير البنية التحتية الاقتصادية، وارتفاع تكلفة النقل والوقود، واحتكار السلع، إلى جانب تقلبات أسعار العملات، وضعف الدعم الخارجي والإمدادات الدولية، وتعود تلك الأسباب لتفاعل العوامل الاقتصادية والإنسانية واللوجستية والتي تزيد بمجموعها من صعوبة حصول المواطنين على احتياجاتهم الأساسية، مما يفاقم الأزمات الاجتماعية والإنسانية في القطاع.
ولم يفلح الدخول المحدود لبعض أصناف البضائع مؤخراً في السيطرة على حالة الغلاء التي تتزامن مع مجموعة من العوامل التي تسببت فيها الحرب، الأمر الذي أدى إلى تواصل معاناة نحو مليوني نازح فلسطيني يعيشون في مراكز ومدارس ومخيمات النزوح، وسط أوضاع اقتصادية ومعيشية وبيئية وصحية وأمنية غاية في السوء.
كميات أقل لا تكفي سكان غزة
يوضح الباحث في الشأن الاقتصادي أحمد أبو قمر أن عدد الشاحنات التي تدخل إلى قطاع غزة من شماله حتى جنوبه لا يتجاوز 13-15% في أفضل الأحوال مقارنة بعدد الشاحنات التي كان يتم ضخها قبل بدء العدوان، ما يعني أن الكميات لا تزال قليلة ولا يمكنها سد الاحتياجات المتزايدة.
ويوضح أبو قمر لـ"العربي الجديد" أن الحديث كان يدور قبل الحرب عن حاجة غزة لقرابة 400 شاحنة يوميا، بينما يتم منع دخول الشاحنات منذ بداية الحرب، وفي حال استثناء فتح المنافذ لدخول الشاحنات، لا يتجاوز السماح سوى بدخول 40 إلى 50 شاحنة، وهو ما يعرف بسياسة التقطير في عدد الشاحنات الواردة.
ويبين أن الاحتلال يتبع في الوقت ذاته سياسة الإغراق لبعض السلع، "ففي الوقت الذي تفتقر المحافظات الوسطى والجنوبية لسلعة الطحين الأساسية وغلاء أسعارها لنحو 15 ضعفا، يتم إغراق محافظتي غزة والشمال بالطحين وهي بالمجمل خطة إسرائيلية لزيادة التنغيص على المواطنين وزيادة معاناتهم خلال الحرب الجارية".
ويعود ارتفاع الأسعار وفق رؤية أبو قمر إلى سببين، الأول هو انعدام الأمن الذي يدفع التاجر إلى دفع تكاليف إضافية لتأمين بضاعته، فيما يتمثل السبب الثاني بالعدد القليل للتجار المسموح لهم باستيراد البضائع، حيث تفتح هذه الجزئية الباب واسعا أمام التحكم في الأسعار، من خلال حاجة الناس، أو استعمال مساحة التوريد الخاصة بهم لاستغلال تجار آخرين ممن لم يحصلوا على تصاريح توريد، عبر بيع حصة من مساحة الاستيراد الخاصة بهم مقابل مبالغ مالية كبيرة. ويقول "كل هذه التكاليف تحسب في النهاية على المستهلك".
ويلفت كذلك إلى التأثيرات الكبيرة لشح السيولة وتداعياتها الصعبة على ارتفاع الأسعار وأبرزها ارتفاع نسب "التكييش" جراء إغلاق البنوك وبيع السيولة من بعض التجار المحتكرين بمقابل نسبة تصل إلى حوالي 30% من نسبة المبالغ المراد صرفها، إلى جانب العملات المهترئة نتيجة عدم رفد السوق بعملات جديدة بسبب إغلاق المعابر والتي خلقت أزمة نتيجة رفض التاجر والزبون التعامل بها لعدم قدرتهم على تصريفها.
ويرى أبو قمر ضرورة قيام سلطة النقد بإدخال السيولة اللازمة للتخفيف من حدة أزمة شح السيولة، وكذلك أزمة العملات القديمة، إلى جانب قيام وزارة الاقتصاد بمتابعة الأسواق ومحاربة سياسة الاحتكار، كذلك التباحث بشأن أسعار التنسيقات المرتفعة والتي تعتبر خارج الاتفاقيات الاقتصادية وأبرزها اتفاقية باريس الاقتصادية، علاوة على ضرورة تأمين الشاحنات التجارية الواردة إلى قطاع غزة وحمايتها من اللصوص وقطاع الطرق.
تعطش الأسواق في غزة
وكان الفلسطيني أسعد مهاني، والذي يعمل في مجال بيع البقوليات والمواد الغذائية في سوق دير البلح وسط قطاع غزة يأمل في أن يساهم دخول بعض الأصناف الأساسية في خفض أسعارها، إلا أن ذلك لم يحدث نتيجة الشح الشديد في البضائع وتعطش الأسواق لكميات أكبر من تلك التي يتم السماح بدخولها.
ويبين مهاني لـ "العربي الجديد" أن تواصل ارتفاع الأسعار دفعه إلى خفض كمية البضائع التي يتاجر فيها لعدم قدرته على شراء الكميات اللازمة لعمله. ويضيف: "توقعنا أن يساهم الدخول الأخير لبعض الأصناف في خفض أسعارها، إلا أن ذلك لم يحدث بفعل عدم قدرة البضائع القليلة على ري ظمأ الأسواق وحاجة المواطنين".
ويشير إلى أن حالة الغلاء التي يتسبب فيها الاحتلال الإسرائيلي نتيجة التحكم في أصناف ونسب البضائع إلى جانب احتكار بعض التجار للأصناف الأساسية، تترافق مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة للمواطنين والتي لا تمكنهم حتى من شراء الأصناف بأسعارها الطبيعية بسبب استنزاف طول أمد الحرب لأموالهم ومدخراتهم، بينما يزيد غلاء البضائع من عمق الأزمة.
أما الفلسطيني خالد أبو سمرة، وهو صاحب بقالة في دير البلح فيوضح أنه توقف عن العمل لفترة جراء خسارة محله التجاري ونزوحه برفقة أسرته، إلا أنه عاد للعمل تدريجيا على بسطة شعبية لتوفير المتطلبات الأساسية لعائلته، فيما لم يتمكن من توسيع عمله بفعل الارتفاع الشديد في أسعار البضائع، بحجة النسب المرتفعة للنقل والتنسيقات والعمولات المطلوبة للتكييش وشراء البضائع.
ويلفت أبو سمرة لـ "العربي الجديد" إلى أن تذبذب الأسعار وعدم استقرارها أدى إلى خسارته عدة مرات، بفعل المضاربة الشديدة في بعض الأصناف، إلى جانب إتاحة بعض التجار لأصناف من السلع عبر التطبيقات البنكية، فيما لا يتمكن من توفير معظم بضائعه سوى عبر الدفع النقدي، والذي يزيد من تكلفة ثمن البضائع، ويجعلها غير قادرة على منافسة البيع عبر الدفع الإلكتروني.
ويوضح أبو سمرة أن المتسبب الأساسي في انفلات الأسواق بجانب غياب الرقابة الرسمية، يعود إلى المنع الإسرائيلي لدخول البضائع بشكل كاف ومنتظم، الأمر الذي يفتح الباب واسعا أمام التلاعب والاحتكار والتحكم في الأسعار وفي آلية البيع والشراء، بينما يتحكم كذلك في أصناف السلع الموجودة والمختفية من الأسواق والبسطات الشعبية التي باتت المصدر الأساسي لرفد الأسر باحتياجاتهم في ظل قصف وتدمير معظم المحال التجارية.