تتجدد المعركة في الإدارة الأميركية بين الجمهوريين والديمقراطيين حول الحد الأقصى للديون، وسط مخاوف جدية من تخلف أكبر اقتصاد في العالم عن السداد.
ويشرح موقع وزارة الخزانة الأميركية أنّ حد الدين هو المبلغ الإجمالي للأموال التي يحق لحكومة الولايات المتحدة اقتراضها للوفاء بالتزاماتها القانونية الحالية، بما في ذلك مزايا الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، والرواتب العسكرية، والفوائد على الدين الوطني، واسترداد الضرائب، والمدفوعات الأخرى.
لا يسمح حد الدين بالتزامات إنفاق جديدة، بل يسمح للحكومة ببساطة بتمويل الالتزامات القانونية الحالية التي تعهد بها الكونغرس ورؤساء كلا الحزبين في الماضي.
والفشل في زيادة حد الدين ستكون له عواقب اقتصادية وخيمة، إذ سيؤدي ذلك إلى تقصير الحكومة في الوفاء بالتزاماتها القانونية، وهو حدث غير مسبوق في التاريخ الأميركي، من شأنه أن يعجل بأزمة مالية أخرى ويهدد وظائف ومدخرات الأميركيين العاديين، ويعيد الولايات المتحدة إلى هوة اقتصادية عميقة، تماماً كما تتعافى البلاد من الركود الأخير.
وتصرف الكونغرس دائماً، وفقاً لموقع وزارة الخزانة، عندما طُلب منه رفع حد الدين. منذ عام 1960، اتخذ الكونغرس 78 مرة منفصلة قراراً لرفع تعريف حد الدين أو تمديده مؤقتاً أو مراجعته بشكل دائم؛ 49 مرة في ظل الرؤساء الجمهوريين، و29 مرة في ظل الرؤساء الديمقراطيين، علماً أنّ الدين الوطني الخاضع لحد الاقتراض في طريقه للوصول إلى 52 تريليون دولار في عام 2033، وفقاً لتقرير صادر عن مكتب الميزانية بالكونغرس، في فبراير/ شباط الماضي.
بدوره حاول موقع "بوليتيكو" تتبع المعارك خلال 13 سنة الماضية حول سقف الدين الأميركي، مذكّراً بأنّها كلها انتهت من خلال التفاوض بين الجمهوريين والديمقراطيين.
وشرح أنه يوجد قواسم مشتركة في كل المعارك، حيث إنّ الجمهوريين في مجلس النواب، حتى مع وجود أغلبية كبيرة، كانوا بحاجة دائماً إلى أصوات الديمقراطيين للتصرف بشأن سقف الدين.
ويشير الموقع إلى فشل المحافظين في مجلس النواب، في كل مرة يحاولون فيها الاتحاد حول المطالب المالية، لافتاً إلى أنّه عندما رفض الديمقراطيون التفاوض مقدماً، جاء الجمهوريون في مجلس الشيوخ لإنقاذهم باتفاق بين الحزبين في النهاية.
وبالتالي، يستنتج "بوليتكو"، أنه "لا عجب أنّ الرئيس جو بايدن ما زال لن يساوم"، فيما تقترب البلاد من خطر التخلف عن سداد ديونها الصيفية التي تزيد عن 31 تريليون دولار.
ويجادل العديد من الديمقراطيين بأنّ هناك اختلافين مهمين ولكن دقيقين بين النقاش الحالي والصفقات السابقة للحد من الديون: أولاً، أنّ الحزب الجمهوري الذي يطالب بتنازلات لم يقدم عرضاً، وثانياً هناك قلق متزايد من أنّ الجمهوريين سيسمحون هذه المرة بالتخلف عن سداد الديون، إذا لم يتمكنوا من إنجاح مقايضاتهم.
فكيف سارت المفاوضات خلال آخر المعارك حول حد الديون، وكيف انتهت؟
بين 2019 و2021
في شتاء العام 2021، كان المطلب حول زيادة الديون 3 تريليونات دولار، وكان السقف في ذلك الوقت 28.4 تريليون دولار. أصر المشرعون الجمهوريون في عام 2021 على أنهم لن يصوتوا لرفع سقف الدين دون تغييرات كبيرة في عادات الإنفاق للحكومة الفيدرالية.
لكن الأمور كانت مختلفة عن المواجهة الحالية في جانب واحد أساس، وهو أنّ الديمقراطيين كانوا يسيطرون على الكونغرس والبيت الأبيض في ذلك الوقت، مما يمنحهم سلطة رفع الحد الأقصى بأنفسهم.
ومع وجود أغلبية ضئيلة في مجلسي النواب والشيوخ، كان بإمكان الديمقراطيين استخدام تدابير الحماية التي توفرها قواعد ميزانية الكونغرس لرفع حد الاقتراض في البلاد دون أي مساعدة من الجمهوريين. وبدلاً من ذلك، قاموا بزيادة إجراءات ميزانيتهم دون أي ذكر لحد الدين، مما شكل تحدياً فعالاً لأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين لمساعدتهم على تجنب وقوع كارثة.
في النهاية، رضخ الطرفان قليلاً، وتم إنشاء ثغرة معطلة لمرة واحدة سمحت للديمقراطيين في مجلس الشيوخ برفع الحد الأقصى بأغلبية بسيطة. ولم يتم ربط أي تغييرات مالية كبيرة بالصفقة، لكنها أخرت بعض التخفيضات في برنامج الرعاية الطبية والبرامج الصحية الأخرى.
وهزت سياسة حافة الهاوية وول ستريت لما يقرب من ثلاثة أشهر، مما أدى إلى تفاقم تقلبات الأسهم، حيث كانت وزارة الخزانة على بعد يوم واحد فقط من التخلف عن سداد ديون الولايات المتحدة بحلول الوقت الذي اتخذ فيه الكونغرس قراراً أخيراً.
المعركة السابقة كانت في يوليو/ تموز 2019، وكان الهدف زيادة الديون 6.4 تريليونات دولار، فيما كان السقف في ذلك الوقت 22 تريليون دولار، وانتهت المعركة بالتنازل عن الحد لمدة عامين، إذ لم يكن الرئيس آنذاك دونالد ترامب يريد أزمة ديون تهز السوق قبل عام من محاولة إعادة انتخابه. لم يكن ستيفن منوتشين يريد أن يكون وزير الخزانة الأول الذي يتم خلال ولايته التخلف عن السداد. وكان المشرعون في كلا الحزبين حريصين على ضمان ألا تكون هناك أزمات قبل انتخابات 2020 مباشرة.
مع هذه المصلحة المشتركة، أجرى منوتشين ورئيسة مجلس النواب حينها نانسي بيلوسي محادثات لأسابيع، وتوصلا في نهاية المطاف إلى اتفاق ميزانية لمدة عامين وفرت دفعة تمويل أكبر للبرامج المحلية مما قدمته للجيش. وقد وقع ترامب على مشروع القانون قبل حوالي شهر من توقع تخلف الولايات المتحدة عن السداد.
بين 2017 و2018
في فبراير/ شباط 2018 كان المطلوب زيادة الديون 1.5 تريليون دولار، والسقف في ذلك الوقت كان 20.5 تريليون دولار. تم التنازل عن الحد لمدة 13 شهراً، بعد إعلان انتهاء المعركة، إذ ما بدأ كصفقة ميزانية كلاسيكية من الحزبين تحول إلى إغلاق حكومي قصير.
وبعد شهور من المفاوضات المغلقة، وضع زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ آنذاك ميتش ماكونيل، وزعيم الأقلية آنذاك تشاك شومر، خطة لرفع سقف الإنفاق وزيادة حد الدين وتمويل الحكومة، ثم أعطى الرئيس ترامب مباركته، وحظيت الصفقة بدعم من الحزبين في كلا المجلسين.
بيد أنّ راند بول لم يكن سعيداً، ومنع الجمهوري من ولاية كنتاكي مؤقتاً تمرير مشروع القانون في مجلس الشيوخ، مطالباً بالتصويت لتجريد زيادة حد الدين من الحزمة، وإبقاء الحكومة تحت سقف صارم للميزانية.
كذلك حاولت زعيمة الأقلية آنذاك بيلوسي معارضة مشروع القانون، واحتجت على تقاعس الجمهوريين عن احترام الوضع القانوني للمهاجرين الشباب غير المسجلين، لكن أيّد 73 ديمقراطياً تمرير المشروع بالرغم من ذلك. وجاء تعليق حد الديون قبل حوالي شهر من إعلان وزارة الخزانة استنفاد قدرتها على الاقتراض بالكامل.
وفي سبتمبر/ أيلول 2017، كان المطلوب زيادة الديون 700 مليار دولار، فيما كان السقف في ذلك الوقت 19.8 تريليون دولار، وانتهت المعركة بالتنازل عن الحد لمدة ثلاثة أشهر.
ففي خطوة صدمت الجمهوريين، انحاز ترامب بشكل غير متوقع للديمقراطيين إلى دعم عرض تنازل عن سقف الديون، ومدد التمويل الحكومي لمدة ثلاثة أشهر، مع توفير الإغاثة من الكوارث جراء إعصار "هارفي".
وجّه دعم ترامب للإعصار ورقعة الإغاثة المالية ضربة لبقية حزبه. رأى زملاؤه الجمهوريون أنه يتخلى عن أي ذرة من نفوذ الحزب الجمهوري، بينما ضغط الديمقراطيون للتفاوض على تمويل حكومي عالي المخاطر في نهاية العام، بالإضافة إلى إصلاح شامل للهجرة.
كان الحزب الجمهوري يأمل في الأصل في تمديد حد الديون حتى انتخابات التجديد النصفي لعام 2018، وتم التوقيع على الصفقة لتصبح قانوناً قبل أسابيع فقط من توقع تخلف الولايات المتحدة عن سداد قروضها.
ماذا لو حصل التخلف عن السداد في 2023؟
يحذر الخبراء والمشرعون من آثار كارثية على الاقتصاد الأميركي إذا تخلفت الحكومة الفيدرالية عن السداد، وفق موقع الصحيفة الأميركية "ذا هيل"، بينما يتوقع آخرون أن تشهد أميركا ركوداً في وقت ما لاحقاً هذا العام، مع تحذيرهم من أنّ التخلف عن السداد الفيدرالي قد يسرع على الأرجح هذا الجدول الزمني، مما يزيد من خطر حدوث تباطؤ حاد.
ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة نيويورك مارك غيرتلر للصحيفة الأميركية: "سيؤثر ذلك على الإقراض والاقتراض والأسواق المالية"، مضيفاً أنّ الجمع بين قلة الاقتراض وخفض الإنفاق يؤدي إلى الركود.
ومن المحتمل أيضاً أن تشهد البلاد معدلات فائدة أعلى على ديونها في حالة التخلف عن السداد، حيث سيُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها مقترض أقل جدارة بالثقة.
لماذا سقف للديون؟
تم إنشاء سقف الدين في العام 1917، حيث أعطيت وزارة الخزانة سلطة إصدار السندات واقتراض الأموال لتمويل الإنفاق الذي وافق عليه الكونغرس والرئيس.
قبل ذلك، كان بإمكان وزارة الخزانة اقتراض الأموال وإصدار السندات فقط وفقاً لتعليمات محددة من الكونغرس. مع اتساع الاقتصاد الأميركي والميزانية الفيدرالية خلال الحرب العالمية الأولى، لم يتمكن المشرعون من مواكبة تزايد النفقات وتعقيد الإنفاق الفيدرالي.
للحفاظ على الشؤون المالية للدولة تحت السيطرة، فرض قانون سندات الحرية الثاني حداً أقصى لمقدار الديون التي يمكن أن تتحملها وزارة الخزانة لتمويل الإنفاق، وبالتالي وضع حد للديون.
في السنوات اللاحقة، تم إجراء تغييرات للسماح للخزانة "بمزيد من المرونة في إدارة الديون والسماح بتحديث التمويل الفيدرالي".
هل حصل التخلّف في السابق؟
يقول الخبراء إنّ التخلف عن السداد المتعمد من قبل الكونغرس سيكون غير مسبوق في التاريخ الحديث. وهناك جدل حول ما إذا كانت الولايات المتحدة قد عانت من الناحية الفنية من تعثر قصير في عام 1979، بعد أن تخلفت الحكومة الفيدرالية عن بعض المدفوعات للمستثمرين. وأظهرت الأبحاث التي أجريت في السنوات التالية أنّ الواقعة تعود إلى مشكلات فنية في ذلك الوقت.
ويتسبب التخلف عن السداد الفيدرالي في حدوث انهيار في الأسواق المالية مع انخفاض تريليونات الدولارات من سندات الخزانة الأميركية، وهي ركيزة أساسية للنظام المالي العالمي.
وتنقل "ذا هيل" عن خبراء إشارتهم إلى أنه من المتوقع أن تقوم الشركات بـ"تسريح العمال بشكل جماعي لأنهم قلقون بشأن شكل الاقتصاد خلال السنوات القليلة المقبلة".