أشرت في المقال الماضي إلى مسألة حالة التفاوت الحاصلة بين الأغنياء والفقراء مُرجعاً السبب، أحد الأسباب طبعاً وليس كلها، إلى الأوراق النقدية الحكومية التي تطبع بدون وازع علمي أو أخلاقي، وبشكل أثّر سلبياً على الأوضاع الاجتماعية للسكان، وإيجابياً على حسابات الأثرياء. فما علاقة المدارس الاقتصادية بهذه الظاهرة؟
وفي تناول أعمق لهذه المسألة، لا بدّ من تدارس التاريخ الاقتصادي والأوائل الذين نظّروا لما وصلنا إليه اليوم من سياسات اقتصادية ونقدية. والتطرّق للنظريات البديلة التي قدمت أنموذجاً حلّ بشكل أو بآخر بعضا من مشاكل التفاوت بين الطبقات.
في العام 1776 أسس آدم سميث مبادئ الاقتصاد الكلاسيكي وحرية الأسواق ودور الأفراد في تنظيمها بدون تدخل الحكومات، ومع ازدهار التجارة الحرة وظهور الطبقات الرأسمالية، جاء كارل ماركس في 1867 ليثير مسألة الصراع الطبقي، واستغلال العمال، والتناقضات الداخلية التي ستؤدي إلى زوال الرأسمالية في نهاية المطاف.
خلال القرن التاسع عشر بقي العالم بين مدرستين إحداهما تدعو لسيطرة السوق على أدوات الإنتاج، في حين تدعو الأخرى إلى سيطرة الدولة على تلك الأدوات.
في القرن العشرين، وعقب الكساد العظيم في الثلاثينيات عاد جون كينز ليؤكد على أهمية تدخل الدولة في الاقتصاد والتشغيل العام، واستغلّت الولايات المتحدة الأوضاع العالمية بعد الحرب العالمية الثانية فتم تأسيس النظام المالي الدولي الحالي على مشارف بريتون وودز في العام 1944.
ظهر ميلتون فريدمان في السبعينيات ليؤكد على مفهوم تطبيق السياسات الاقتصادية الليبرالية، والخصخصة ودور السوق في توجيه الاقتصاد، مع تبني سياسات نقدية صارمة لمكافحة التضخم من قبل البنوك المركزية. لم يرق هذا الكلام لكارل مينجر وبعده فريدريش هايك في المدرسة النمساوية التي تبغض استخدام نماذج رياضية للتنبؤ بالسلوك الاقتصادي، وعارضت التخطيط المركزي والتدخلات الحكومية، مفضلة الأسواق الحرة.
الحرية والابتكار
لندخل في صلب الموضوع، ونستكشف كيف ساهمت تلك المدارس في ما وصلنا إليه اليوم. تحت شعار الحرية والابتكار دفعت المدرسة الليبرالية، بشقيها الكلاسيكي والجديد، العالم نحو تبني سياسات تقلل من التدخل الحكومي في الأسواق، معتبرة ذلك مسلكاً للنمو الاقتصادي والازدهار.
إلا أن النمو في ثروة الدولة أسفر عن تمايز في الطبقات الاجتماعية واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، بين المالك والعامل، وتكدس الثروة بيد القلة، وبروز ظاهرة الاحتكار، وغياب العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع، وأصبحت تلك القلّة ليس من سمات النظام الاقتصادي العالمي وحسب، بل أحد محركاته.
يجب أن نميز بين تياري الليبرالية، بين من يدعو إلى تدخل حكومي محدود مؤكداً على حرية الأسواق والأفراد، ومن يدعو لتدخلات حكومية لتصحيح فشل السوق، وضمان المنافسة العادلة، وحماية الأفراد في الصحة والتعليم والرفاه.
معظم الدول التي تتبع الليبرالية تتبنى نموذجاً هجيناً، بمعنى أنها تسمح بتدخل الدولة لتقليص حدّة الأزمات الحاصلة. ولكن سرعان ما تكتشف أن تلك التدخلات تأتي لصالح القلّة، الأثرياء، مالكي رأس المال والأصول، النخب الرأسمالية في المجتمع. إذ تعمد الدولة إلى إنقاذ الشركات المتعثرة، وتقديم إعفاءات ضريبية، وتسهيلات نقدية، والتي تصب بالمحصلة لتعزيز مصالح القلة على حساب الأغلبية. وبدلاً من تصحيح مسار الأزمة وتحقيق التوازن في الأسواق، تسهم تلك التدخلات أكثر في تعزيز الاحتكارات وتفاقم الفوارق الاقتصادية، وزيادة الضغط على الطبقات الدنيا في المجتمع.
لا أعتقد، أن أحداً لا يتذكر ما حصل في الأزمة المالية العالمية 2008 حيث أدت الإجراءات المتخذة من قبل البنك الفيدرالي الأميركي والحكومة الأميركية لإنقاذ المؤسسات المالية، والشركات الكبرى المدرجة في أسواق البورصة، عبر حزم مالية ضخمة تم تمويلها بأموال دافعي الضرائب.
دعني أكررها بطريقة أخرى: دافعو الضرائب في أميركا، العمّال والموظفون والكادحون، دفعوا فاتورة الإنقاذ المالي للشركات المفلسة والمتعثرة التي تسببت في الأزمة المالية.
استفادت تلك الشركات قبل الأزمة وخلالها، واستمرت في مزاولة أعمالها ومراكمة الأرباح والثروة. أمّا العمّال فقد فقدوا وظائفهم وأفلسوا، وفوق ذلك أُجبروا على دفع فاتورة الإنقاذ المالي من خلال الضرائب. هذا أحد الأمثلة على كيفية استفادة النخبة الاقتصادية والأثرياء من السياسات الليبرالية على حساب الأغلبية.
لم تنته القضية هنا، فالليبرالية فتحت العالم على بعضه، وباتت الشركات تعمل في كافة دول العالم ولديها مئات آلاف العمّال، دخلت بعض الشركات نادي التريليونات، ساهم هذا في تفاوت الثروة بين الدول عبر تسهيل نقل الثروة والوظائف إلى مناطق ذات تكلفة عمالة أقل للاستفادة من انخفاض التكاليف والتنافسية.
من حيث مبدأ الليبرالية لا بأس أن تتعاظم قيمة الشركة وثروة مؤسسيها والدولة التي جاءت منها الشركة، على حساب توظيف مئات العمال برواتب قليلة وظروف عمل سيئة.
استطاعت المدرسة الليبرالية ترسيخ فكرة أن هناك دولا متقدمة ودولا متخلفة، دولا غنية ودولا فقيرة، دولا مصدّرة للثروة والمنتجات ودولا مستوردة ومستهلكة، دولا تهتم بالعلم والابتكار والتكنولوجيا والوصول إلى أعلى سلم التنمية ودولا تهتم بالكفاف والوصول إلى حدود الفقر.
ليس سراً أن الليبرالية وسياساتها أفرزت تشوهات كبيرة في الاقتصاد العالمي، لذا فإن التأمل بتلك السياسات ونقدها نقداً علمياً يعد خطوة ضرورية نحو استكشاف بدائل توزيع أكثر عدالة للثروة والفرص، ومستقبل قائم على العدالة الاقتصادية والاجتماعية. فما الذي اتبعته النماذج الأخرى النقيضة لليبرالية؟
سلطة المجتمع
لننتقل الآن إلى الضفة الأخرى من النظرية الاقتصادية، قدمت الاشتراكية نقداً لليبرالية بتأكيدها على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وتقليل التفاوتات بين أفراد المجتمع عبر التوزيع العادل للموارد والثروة، والسعي إلى تقديم مستويات عالية من الخدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم والبنى التحتية والمواد الأساسية بشكل مجاني أو بأسعار رخيصة جداً. ويتميز هذا النموذج بالتخطيط المركزي من قبل الدولة لتحقيق نمو اقتصادي، وتشغيل عام.
لكن هذا البديل واجه أيضاً انتقادات كثيرة من حيث نقص الكفاءة والابتكار مقارنة مع الاقتصادات الليبرالية، فالمنافسة في السوق تشكل دافعاً أكبر نحو الابتكار على كافة المستويات، ويؤدي التخطيط المركزي إلى صعوبات في التكيف مع التغيرات الحاصلة في الأسواق العالمية، ما يؤثر على القدرة التنافسية للشركات العاملة في ظل هذا النموذج.
وبقي أن أُذكّر بأكثر عيوب هذا النموذج، وهي الفساد وسوء الإدارة والبيروقراطية المُفرطة، والتي يمكن أن تشوّه الاقتصاد أكثر من الليبرالية، وتبقي الأهداف حبراً على الورق لا أكثر.
مقابل النقد الموجه لكل من الاشتراكية والليبرالية، برزت خلال العقود الماضية مدارس هجينة بين النظريتين سعت للاستفادة من مزايا كل نظرية، وتقديم بدائل واقعية لمعالجة التفاوت بين الطبقات الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة بين أفراد المجتمع. سُميت باقتصاد السوق الاجتماعي، الاقتصاد المختلط، الديمقراطية التشاركية، وغيرها.
يتبنى هذا النموذج نظام رعاية اجتماعية يقوم على تعزيز النظام الصحي والتعليمي للجميع وبالمجان، بشكل يسهم في تحقيق المساواة الاجتماعية، وفرض نظام ضريبي صارم على الدخل والثروة بشكل متصاعد تصل إلى 50% بالشكل الذي لا يراكم الثروة بأيدي القلة وتحقيق العدالة في التوزيع.
ويعمل هذا النموذج على حماية الصناعات المحلية من خلال فرض ضرائب ورسوم على الواردات، لحماية الصناعات الوطنية وتشجيع الإنتاج المحلي، ما يساعد على توفير فرص عمل، وتعزيز المشاركة والتعاون بين أفراد المجتمع بشكل يقلل من الاستهلاك المفرط، ويدعم التوزيع العادل للموارد ويحافظ على الموارد الطبيعية واستخدام الطاقة المتجددة، ويركز على الابتكار والتكنولوجيا المتقدمة.
كما يعمل على تعزيز مشاركة المواطنين في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية لتقليل الفساد وزيادة الشفافية، والتركيز على بناء اقتصاد يعتمد على الذات ولا يتأثر بالأزمات العالمية.
من بين الدول التي تُطبق هذا النموذج الدول الاسكندنافية، وإنكلترا ومعظم دول أوروبا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة بطرق متفاوتة ومتباينة.
مع ذلك لا يزال هناك مساحة وافرة لتقديم انتقادات لهذا النموذج حول العديد من القضايا الاقتصادية.
وأعتقد أن ظهور تقنية "البلوك تشين" وعملات الكريبتو واللامركزية سيساهم خلال السنوات الآتية في بروز نموذج اقتصادي جديد، يتمحور في مسؤولية المجتمع عن الموارد إنتاجاً وتوزيعاً بدون تداول من الحكومات، ليغدو المجتمع هو وزارة الاقتصاد، والبنك المركزي، والمشرّع الاقتصادي. لا شكّ أنها ثورة اقتصادية جديدة.