ترتفع الأسعار مع انخفاض يومي في قيمة الجنيه، مقابل دولار غير متوفر في السوق، ثلاثية حزينة يعيشها المصريون يوميا، على إيقاع هدير الأسعار في سوق التجزئة، بينما تعاني الشركات ركودا في العرض وطلب، لا يوقفه إلا بحث المستهلكين عن سلع تطعمهم وتوفر الحد الأدنى لإشباع عوائلهم.
يبحث المواطنون عن عروض رخيصة في الأسواق الشعبية والمحلات الكبرى، ويقفون في طوابير طويلة، أمام منافذ توزيع السلع التابعة للجيش والشرطة ومستودعات وزارة التموين، لا توفر الحد الأدنى لطلباتهم اليومية، فخرجت الأصوات الغاضبة من الهمس إلى العلن، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولأول مرة تعرف طريقها إلى الصحف المدارة أمنياً.
حالة الغلاء المتوحش، تبررها الحكومة باستغلال التجار والموزعين. وأطلق وزير التموين علي مصيلحي، وعودا بتراجع أسعار السلع في الأسواق مع حلول شهر رمضان في مارس/ آذار المقبل.
لاقت تصريحات الوزير موجة استهجان واسعة من جمهور خبر عبر تجاربه، أن الأسعار تسير في اتجاه واحد ولأعلى دائما.
دعم رأي الساخرين جمهورا واسعا، ومعاناة جديدة للموردين يشكون عدم قدرتهم على استيراد البضائع التي تحتاجها الأسواق، وخاصة السلع الأساسية كالزيوت والأعلاف ومستلزمات الإنتاج.
يعترف موردون أن الحكومة أفرجت عن بضائع مخزنة في الموانئ طوال العام الماضي، بلغت قيمتها نحو 14 مليار دولار، بينما واقع الحال يظهر عدم خروج كل السلع الاستراتيجية، لعدم قدرة البنوك على تدبير الدولار للموردين، ووجود ملايين الأطنان من البضائع مازالت على أرصفة الموانئ في حاجة إلى تمويل للإفراج عنها وتحكم مجموعة من الموردين في خروج الواردات من مخازنهم للأسواق.
اعتبرت الحكومة السيارات وقطع الغيار اللازمة والملابس المستوردة من السلع الكمالية، لعدم قدرتها على تدبير الدولار، وفي الوقت نفسه تعطل دخول سلع استهلاكية واستراتيجية يعاني السوق من ندرتها.
ندرة الدولار
يؤكد رئيس جمعية مستثمري سوهاج محمود الشندويلي، لـ "العربي الجديد"، أن موجات الزيادة في الأسعار التي تشهدها الأسواق، ترجع إلى عدم وجود الدولار مع توفر سلع كثيرة في الموانئ لم يفرج عنها من الدوائر الجمركية. يقول الشندويلي: طالما كميات السلع التي تحتاجها الأسواق من الخارج أقل من الطلب، ستظل الأسعار في تصاعد.
ترتفع الأسعار منذ عام، مدفوعة بزيادة أسعار السلع القادمة من الخارج، بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، ورغم هبوط تلك الأسعار لمستويات مرحلة ما قبل الحرب، وفقا لبيانات منظمة الأغذية والزراعة "فاو"، فإنها تشهد ارتفاعا قياسيا، خاصة في اللحوم والبيض والأجبان والسكر والزيوت والأعلاف، والملابس ومستلزمات المصانع، مدفوعة بتدهور قيمة العملة، التي فقدت أكثر من نصف قيمتها مقابل الدولار، حيث وصلت قيمة الدولار من 15.7 جنيها إلى 30.7 جنيها.
يشير كبير الاقتصاديين بمعهد التمويل الدولي، روبين بروكس، في تقرير نشرته صحيفة "فايننشل تايمز" مؤخرا، إلى أن مصر من الدول التي خفضت قيمة عملتها لتحصل على تمويل طارئ من صندوق النقد الدولي، رغم أنها من البلدان منخفضة الدخل، وعرضة إلى خطر أزمة الديون وتعيش في أزمة حاليا.
يشير بروكس إلى لجوء البنك المركزي المصري إلى تخفيض قيمة العملة بنسبة 23%، منذ مطلع العام الجاري، ليخسر الجنيه نصف قيمته مقابل الدولار، بشكل مصطنع، يؤدي إلى استنفاد الاحتياطات الأجنبية الشحيحة، ويعوق نموها ويجعل صادراتها أكثر تكلفة، ويفاقم التضخم بجعل الواردات أكثر تكلفة، ويرفع تكلفة خدمة الدين بالعملات الأجنبية.
زمن الاحتكار
يتوقع خبراء اقتصاد أن تؤدي السياسات الحكومية إلى مزيد من المعاناة للشارع مع استفحال التضخم، بعد أن ارتفعت أسعار السلع إلى معدلات غير مسبوقة.
يبدي نائب رئيس الغرفة التجارية، أحمد شيحة، حزنه على ما آلت إليه مستويات أسعار طبق البيض إلى 138 جنيها، بما يمثل ضعف ثمنه في تركيا التي تشهد زلزالا قتل أكثر من 40 ألف نسمة وأتي على 10% من اقتصادها القومي.
ويتعجب شيحه من وصول سعر الدجاجة محليا إلى 200 جنيه في المتوسط، بينما تباع في تركيا بسعر يعادل 70 جنيها، وطبق البيض 60 جنيها، وكيلو اللحم 120 جنيها في ظل تضخم بلغ 80% سنويا.
يؤكد شيحه لـ"العربي الجديد" أن أسعار السلع الأساسية لا تتحرك في الأسواق الدولية بهذه السرعة اليومية محملا الحكومة المسؤولية الكاملة عن تصاعد موجات الغلاء.
ويقول إن مكونات صناعة الدواجن واللحوم واحدة في أنحاء العالم، والأسعار معلنة في بورصات السلع وتتعامل بها كل الدول في آن واحد، وعندما لا تتحرك بالدول الأعلى دخلا أو الأكثر عرضة لكوارث، بنفس المعدلات التي تشهدها الأسواق، فهذا يكشف أن السوق المصري به خلل كبير صنعته الحكومة من اعتمادها على استيراد تلك السلع عبر مجموعة محدودة من المستوردين لا تزيد عن أصابع اليد الواحدة، تتحكم بمفردها في أسعار الواردات بداية من القمح والذرة والأعلاف والكتاكيت (الصيصان) والدواجن والأسمدة، وجميع مستلزمات الإنتاج الأخرى.
ويشير نائب رئيس الغرفة التجارية إلى دور الحكومة في صناعة الاحتكارات عبر "كارتلات" الاستيراد ورجال الأعمال الذين تسمح لهم وزارة التموين دون غيرهم بدخول المناقصات لشراء السلع التموينية والأساسية، ومن يحاول مساعدة الدولة في شراء تلك السلع ومنافستهم، يتعرض للسحق بعلم مسؤولين كبار في الدولة، ويكون الخاسر الأخير هو المستهلك الذي يدفع من جيبه ثمن موجات الغلاء وتكاليف الزيادة التي يحددها المحتكرون وفقا لأهوائهم وليس وفقا لظروف السوق الدولية، التي يتحججون بها.
وكشف أن الدولة تتعرض لهذه الضغوط ذاتها، لأن هيئة السلع التموينية التي تجلب القمح والسلع المدعومة من الخارج، تمر عبر سلسلة المحتكرين، الذين يقومون بتقسيم الصفقات في ما بينهم وتوزيع الأدوار على منافسات شكلية عند إسناد المناقصات العامة لشركات التوريد محدودة العدد، بما يضمن بقاء هؤلاء المحتكرين على قمة الهرم في مجالات الاستيراد، ويتحكمون عبر "الكارتلات" في أسعار جميع السلع بالأسواق.
أضاف شيحه أن أزمة الأسعار لم تعد في ندرة البضائع، بعد أن دخلت كميات كبيرة للأسواق، ولكن في قوة المحتكرين، الذين يدفعون بالسلع وفقا لأهوائهم ورغبتهم في تحقيق أعلى عائد من البيع، ودفع الطلب دوما أعلى من العرض.
ويطالب بأن تتوقف الحكومة عن خفض قيمة الجنيه، حيث يعتمد 80% من اقتصاد الدولة على توافر الدولار، والمحافظة على استقرار قيمة العملة، مؤكدا أن أسعار السلع تضاعفت 5 مرات خلال 7 سنوات، متأثرة بتراجع قيمة العملة المحلية من 7 جنيهات إلى 30.7 جنيها، مقابل الدولار حاليا، والتي تقترب من نفس معدل التضخم في قيمة السلع منذ عام 2016، حينما بدأ تعويم الجنيه.
غياب الرقابة
أيّد رئيس جمعية "مواطنون ضد الغلاء"، محمود عسقلاني، في بيان صحافي رؤية شيحة حول تحكم "عشرة من كبار التجار والمربين بأسعار الدواجن واللحوم، بما دفع الغلاء إلى نطاقات خارج سيطرة الحكومة.
يعزو مسؤولون بشعبة المستوردين بغرفة القاهرة التجارية ارتفاع الأسعار إلى ندرة البضائع وعدم وضوح الرؤية وزيادة الطلب على العرض، وزيادة سعر الدولار، وتكلفة الجمارك، مع عدم وضوح الرؤية أمام المصنعين في ظل عدم توافر الخامات ومستلزمات الإنتاج، بما يجعلهم يضعون سعرا مستقبليا يخضع للتوقعات، وليس على أساس قيمة السلعة أو معدل الربح المتوقع منها، لتفادي أزمات مالية في المستقبل.
يؤكد مراقبون أن تخبط الأسعار في الأسواق، يعود إلى غياب دور الدولة في الرقابة على الأسعار، وعدم قدرتها على مواجهة جشع التجار، ومحتكري السلع، مع عدم وجود قوانين تلزم التجار بسعر عادل للسلع تحمي المستهلك، في ظل غياب البيانات الكاملة عن المنتجين للسلع الأساسية التي تمكن الدولة من دراسة السوق قبل أن تشهد نقصا حادا في العرض، ويدفع المحتكرون إلى التلاعب بالسوق وتحديد الأسعار التي يفرضونها دون قدرة الحكومة على التدخل.
برر نائب رئيس اتحاد منتجي الدواجن، ثروت الزيني، تصاعد الأسعار بعدم تلبية احتياجات موردي الدواجن من الدولار للإفراج عن مستلزمات الإنتاج بالموانئ.
وحذر في تصريحات صحافية من "أزمة وشيكة" مع استمرار نقص العملة الأجنبية، التي توفرها البنوك، لشراء الذرة وفول الصويا. ويشير مربو الأسماك إلى قفزات متوقعة، في أسعارها مع زيادة الأعلاف ومدخلات الإنتاج بالمزارع السمكية، ومعدات الصيد لمراكب أعالي البحار، متأثرة بزيادة سعر الدولار، وعدم قدرة المنتجين على تدبيره عبر الطرق الرسمية.
وتقدمت 60 شركة للأدوية بطلب عاجل للجنة الصحة بمجلس الشيوخ لمساعدتها على زيادة أسعار 1000 صنف من الأدوية التي تنتج محليا، تأثرت عمليات إنتاجها سلبا بقوة الدولار المتصاعدة مقابل الجنيه، وقد أدت إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، وندرة المواد الخام التي تأتي 95% من مكوناتها من الخارج.
اتهامات للحكومة
يتهم صغار التجار والموزعين الحكومة بأنها السبب في حالة انفلات الأسعار، وعدم إجبار كبار الموردين على الدفع ببضائعهم للأسواق، بما يجعل سعر نفس السلعة متغيرا من مكان لآخر، وفقا لقوة الطلب وتوافر السلع لدى الموردين بالمنطقة.
وحمّل موزعو الأرز كبار التجار بالاستحواذ على المحصول من المزارعين بأسعار أعلى من سعر التوريد لوزارة التموين، بنحو 4 آلاف جنيه للطن لتصل قيمته إلى نحو 22 ألف جنيه للطن.
يتوقع خبراء تفاقم أسعار المواد الغذائية متأثرة بزيادة قيمة الدولار ومعدل التضخم الأساسي إلى 31.5% الشهر الماضي، مع تصاعد مشكلة نقص العملة الأجنبية بالبنوك، والتوقع بانخفاض سعر صرف الجنيه.